مقاربة تجربة إقليم كردستان العراق.. مغامرة

جوان يوسف

TT

باستثناء العقد الأول من الاستقلال، عانى الكرد في سوريا من اضطهاد وقمع ممنهجين. ومن بين الأشكال الفاضحة التي تشي بعدم مساواتهم مع السوريين، عدم تمكنهم من تعلم لغتهم أو ممارسة تقاليدهم وثقافتهم القومية، وأيضا عمليات التغيير الديموغرافية القسرية كمشروع الحزام المعروف، فضلا عن الفراغ القانوني الذي عاشه أكثر من ثلاثمائة ألف كردي بسبب تجريدهم على نحو استثنائي من أي هوية وطنية أو قومية.

مع ذلك تمكن النظام من احتوائهم على مدى عقود، حيث تسامح حيال نشاط المجموعات الكردية السياسي وأحيانا العسكري، طالما أن هذا النشاط موجه ضد تركيا أو العراق، فالأسد الأب نسج شبكة من العلاقات الأخطبوطية مع معارضات دول الجوار السوري، وابتز بها الداخل والخارج، وخاصة الكرد الذين ارتهنوا سياسيا لإرادة كرد تركيا والعراق.

يقطن الكرد في المنطقة المحاذية للحدود التركية - العراقية، وتعتبر امتدادا جغرافيا وديموغرافيا للمناطق الكردية الأخرى، لكنها لا تشكل إقليما جغرافيا متصلا داخل سوريا كنظيرها في العراق، ولا يمكن الحديث عن إقليم متصل الأطراف ذي أغلبية كردية، وحتى المناطق ذات الأغلبية الكردية تتخللها مجموعات إثنية أخرى، كالآشوريين والسريان والعرب، وتتميز المنطقة بطبيعتها السهلية بعكس نظيرتيها في العراق وتركيا ذات الطبيعة الجبلية التي تسمح بإمكانية العمل العسكري.

هذا الوضع الديموغرافي والجغرافي جعل من محاولة المقارنة مع إقليم كردستان العراق مغامرة كبيرة، فكرد العراق يملكون إقليما كردستانيا، وهي قضية جوهرية انتبهوا لها منذ البداية، فربطوا مطالبهم ومشروعهم السياسي بالهوية الجغرافية وليس بالهوية القومية، ما أكسبهم دعم المجموعات البشرية الموجودة داخل الإقليم، وبامتلاكهم إقليما متصلا ذا طبيعة جغرافية وعرة تتخللها الجبال، أتيح لهم العمل العسكري على مدى أربعة عقود، وبامتلاكهم موارد طبيعية وبشرية صاروا محط أنظار الجوار التركي والإيراني، وورقة رابحة في الصراعات الإقليمية.

بقي كرد سوريا على امتداد عمر الثورة بعيدين عن هجمات النظام، نظرا لعدم قيامهم بأنشطة تثير حفيظته، وهكذا نجح النظام في تحييد الكرد، لكنهم ما زالوا تحت رحمة الطرفين، السلطة والمعارضة، بسبب الانقسامات الحاصلة بين المجموعات الكردية أولا، وبسبب بعض التوترات الأخرى، وبسبب السلطة التي تنظر إليهم كدخلاء على المنطقة ثالثا، ولا يقلل من أهمية ذلك تخليها على مضض عن بعض النقاط الأمنية والإدارات لهم، لأنه لا يعدو أن يكون أكثر من عمل تكتيكي مرتبط بسياسة النظام منذ بداية الثورة لتفتيت مكونات المجتمع وضربها بعضها ببعض، ليجعل الصورة أكثر تشويشا وإرباكا بالنسبة للمجتمع الدولي.

لذلك تقتضي الحكمة أن يبادر الأكراد إلى الاتفاق مع هيكليات المعارضة السورية التي ستحل محل النظام الحالي، وأن يرسخوا حقوقهم حتى لو اقتضى الأمر أن يقدموا تنازلات مؤقتة، من دون أن يسهوا عن ضرورة أن تكون لهيكلية المعارضة استراتيجية واضحة لتطمين جميع السوريين إلى أن الدولة القادمة ستكون لجميع السوريين، مع الأخذ بالاعتبار تمايزهم القومي والإثني، على أن تكون هذه الاستراتيجية مترافقة مع خطوات عملية، كالبث الإذاعي باللغة الكردية، وكذلك المنشورات والصحف ومحاضر الاجتماعات، وغيرها.

وفرت أحداث عام 1991 في العراق ظروفا مناسبة لإقامة نظام فيدرالي فيها، لكن كرد العراق كانوا يقودون المعارضة العراقية، وكانت منطقة كردستان ملاذا للمعارضة العراقية السياسية والعسكرية، ومنطقة حظر جوي، أصبحت فيما بعد مركزا لقواعد القوات الأميركية، ولم يكن الخطاب السياسي للكرد قوميا، بل كردستانيا يشتمل على جميع مكوناته الآشورية والتركمانية والعربية، وهذا ما خفف من الصراع الداخلي في الإقليم، بعكس الخطاب القومي للقوى الكردية في سوريا التي أحدثت شرخا أفقيا في المناطق ذات الأغلبية الكردية.

يشكل إقليم كردستان العراق عمقا استراتيجيا لكرد سوريا، لكن يجب عدم المبالغة في الاعتماد عليه، فرئيس الإقليم يسعى من أجل تطوير علاقاته الاقتصادية والسياسية مع تركيا لتقليص اعتماده على بغداد، وفي مسعى لتطمين تركيا، أنجز الهيئة الكردية العليا التي تضم حزب الاتحاد الديمقراطي القريب من حزب العمال الكردستاني الذي لن تقبل تركيا إطلاقا أن تصبح سوريا قاعدة انطلاق له نحو أراضيها، ورغم إعطاء تركيا دورا قياديا للإقليم لاحتواء الاتحاد الديمقراطي، فإن مصالح أربيل وأنقرة قد تفترقان في أي لحظة، لذلك على كرد سوريا تجنب هذا المأزق، والتوجه إلى المعارضة السورية التي ينبغي التفاوض معها حول دورهم في سوريا المستقبل.

* كاتب وإعلامي سوري