كعب أخيل إيراني

د. سنابرق زاهدي

TT

في تلك الأيام من عام 1988 وبعد انتهاء الحرب الإيرانية - العراقية، أصدر خميني فتوى أمر بموجبها إعدام جميع أعضاء وأنصار «مجاهدين خلق» المتبقين في السجون الإيرانية والمتمسكين بموقفهم السياسي. فألغى النظام الزيارات الأسبوعية لعوائل السجناء، وقام السجانون بإخراج أجهزة التلفزيون من ردهات السجون ومنعوا إعطاء الصحف اليومية للسجناء، وبذلك فرضوا تعتيما شاملا على السجون.

وفور صدور الفتوى بدأت «لجان الموت» بتوجيه سؤال بسيط للسجناء المجاهدين المعصوبي العينين: إلى أي جماعة تنتمي؟ ومن رد على هذا السؤال بـ«مجاهدين خلق» أو «منظمة مجاهدين خلق» كان مصيره إلى المشانق. وفترة المحاكمة لم تتجاوز دقيقتين أو أقل. هذه الوتيرة بدأت في طهران وتوسعت إلى مختلف المحافظات الإيرانية.

ولا يزال متورطون في هذا الجريمة في مناصب قيادية في النظام، ما عدا شخص الخميني. ومعظم كبار المسؤولين في السلطة القضا‌‌ئية هم الذين كانوا متورطين مباشرة في هذه الجريمة. وليست هناك إحصائيات رسمية بشأن عدد الإعدامات، لكن بعض الأرقام تشير إلى أبعاد الكارثة، ففي رسالة احتجاج إلى الخميني تحدث آية الله منتظري عن «إعدام عدة آلاف خلال بضعة أيام». وجاء في التقرير السنوي للأمم المتحدة بشأن الإعدام في فبراير (شباط) عام 1989 أنه «في 14 و15 و16 أغسطس (آب) 1988 نقل 860 جثمانا من سجن ايفين إلى مقبرة بهشت زهراء». وفي عدد من السجون الإيرانية لم يبق من السجناء أحد حيا حتى يروي القصة. وبناء على كم هائل من التقارير والوثائق والشهادات أعلن أن ما يقارب ثلاثين ألف سجين سياسي جرت تصفيتهم خلال أشهر.

هناك عامل آخر أيضا مهم لفهم «لغز هذه الجريمة» وهو محاولة الأمم المتحدة التكتم عليها، حيث إن المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان في إيران آنذاك رينالدو غاليندوبول يقال إنه تعمد عدم التطرق إلى وقائع هذه المجزرة. كما أن لجنة حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة أيضا لم تتطرقا لهذا الأمر.

فما هي الرسالة التي تلقاها النظام في إيران من عدم اكتراث المجتمع الدولي لارتكاب مثل هذه الجريمة؟ وكما يصرح به كبار المختصين في القانون الدولي أصبحت هذه الأفعال أكبر جريمة ضد الإنسانية ارتكبت بعد الحرب العالمية الثانية.

أولا: حيث إن نظام الخميني قبل وقف إطلاق النار بدأ العالم يطبل له، وكان يأمل أن تأخذ الفكرة الخمينية بعد نهاية الحرب مسارا مختلفا تماما على جميع الأصعدة الداخلية والخارجية، ومنها في مجال حقوق الإنسان، فغض الطرف عن هذه «الغلطة» التي ارتكبها النظام بعد الحرب.

ثانيا: مات الخميني بعد ارتكاب هذه الجرائم بأشهر. وتفاءل الغرب بمجيء رفسنجاني، وبدأت الصحافة الغربية تتحدث أن وريث الخميني رجل الاعتدال والإصلاح! ومع أن المعارضة الإيرانية قد شرحت أن خامنئي هو الذي أصبح خليفة للخميني وأن مؤسسة ولاية الفقيه ستجعل من خامنئي الرجل الأول، لكن يبدو أن الغرب لم يكن مستعدا لتعكير صفو علاقاته برفسنجاني رغم أن نظامه ارتكب مجزرة ضد ثلاثين ألفا من السجناء السياسيين.

وفي المقابل أدرك رفسنجاني وكبار المسؤولين في إيران أن العالم لا يحاسبهم بشأن هذه الجرائم رغم فظاعتها وبشاعتها وأبعادها، فلم يكن من المستغرب أن عمليات الاغتيال طالت رموز المعارضة الإيرانية في الخارج في مختلف الدول من فرنسا، وألمانيا، وسويسرا، إيطاليا، وبريطانيا في عهد رفسنجاني.

وتزامن هذا مع محاولات النظام الإيراني لتصدير الإرهاب والقتل والحرب إلى مختلف الدول العربية والإسلامية. وبسبب تقاعس المجتمع الدولي لم يعترِ النظام الإيراني الشك في مواصلة هذه العمليات التي ما زالت مستمرة حتى اليوم.

وأكثر من ذلك أن النظام يتعنت أمام المجتمع الدولي في مشروعه النووي، ورغم القرارات الدولية فإنه ماض في مشروعه والسعي وراء الحصول على السلاح النووي. وهنا يبرز سؤال كبير: كيف يمكن وضع هذا النظام عند حده في تحديه للمجتمع الدولي؟

أعتقد أن الفكرة التي طرحها القاضي الدولي البريطاني جيفري روبرتسون كفيلة بالرد على هذا السؤال. إنه درس قضية ما لحق بالسجناء السياسيين عام 1988 في إيران بشكل دقيق، ونشر تقريرا شاملا حول هذا الموضوع في 150 صفحة. كما أنه درس قضية المشروع النووي الإيراني في كتاب من نحو أربعمائة صفحة.

وخلاصة رأيه هو أنه إذا أراد العالم أن يقف في وجه المشروع النووي الإيراني بشكل جاد فيجب أن يبدأ من حيث ترك واجبه. لا شك أن كعب أخيل في النظام الإيراني هو مجازر 1988 بحق السجناء السياسيين. فعلى العالم أن يضغط على هذا الجانب الذي يعتبر الخط الأحمر للنظام الإيراني والذي لا يستطيع تجاوزه. فإذا أصر العالم على ضرورة محاكمة المسؤولين عن ارتكاب تلك المجازر فلا شك أن هذا النظام سيستسلم أمام المجتمع الدولي ويتراجع عن مشروعه النووي.

* رئيس لجنة القضاء في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية - باريس