ثالوث الدولة والشعب والجيش في مصر

د. محمد عبد الستار البدري

TT

بعيدا عن الاحتفالات بنصر السادس من أكتوبر (تشرين الأول) العظيم وما مثله أخيرا من مناسبة قومية عمقت الرابطة بين الجيش والشعب في مصر - فإن ثورة 30 يونيو (حزيران) كرست مثل هذه العلاقة بين ثلاثي الجيش والشعب والدولة في مصر خارج الأنماط التقليدية أو الـ(Stereotype) حول العلاقة بين الجيش والسياسة لا سيما في الفكر الغربي، فلقد ظل النموذج المصري يتحدى الأنماط التقليدية لتفسير دور الجيش في العملية السياسية في الدول النامية، مما دفع كثيرا من الدول لبناء موقفها بعيدا عن فهم النموذج المصري، الذي يتطلب التعرف على عدد من الحقائق، على رأسها:

أولا: إن نشأة الجيش القومي المصري وعلاقته بالدولة تمثلان بكل المقاييس علاقة فريدة من نوعها؛ ففي أوروبا قامت الدولة الوطنية وانبثق عنها الجيش الوطني، وهو تسلسل مفهوم، فالجيش القومي يصنع بعد نشأة الدولة القومية، ولكن في مصر هذا لم يحدث، فمحمد علي بنى الجيش القومي المصري من المصريين في حدود عام 1823 حتى يكون أساسا لدولة ممتدة، وعلى هذا الهيكل بنى محمد علي الدولة المصرية المدنية الحديثة، فمؤسسات الدولة كانت لخدمة مشروع الجيش بالأساس وليس الدولة، فالنظام التعليمي والتنموي والصناعي، بل والإداري، كان لخدمة مؤسسة الجيش.

ثانيا: إن الجيش المصري كان له دوره المهم في كافة مراحل تطور الحركة القومية المصرية، وهو ما أوردته في مقال بهذه الصحيفة الغراء بتاريخ 25 أبريل (نيسان) 2011 تحت عنوان «الجيش وصناعة أنماط التاريخ في مصر»، فالتداخل شديد بين الحركة القومية المصرية والتطور السياسي في البلاد وهذه المؤسسة، بشكل يكاد يكون من الصعب أن تعزل مؤسسة الجيش عن أي نمط تغيير جذري حدث في مصر، من محمد علي إلى أحمد عرابي، إلى ثورة 1952، وأخيرا ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013.

ثالثا: إن الناظر والمدقق في تاريخ مصر الحديث والمعاصر لن يفوته أن يدرك بشكل واضح أن ضرب مصر سياسيا وتقزيم دورها تصادف بالمرور من بوابة ضرب الجيش المصري، وهذا حدث في معركة نوارين البحرية عام 1827، ثم ضرب الجيش على يد التحالف الأوروبي تضامنا مع الدولة العثمانية في 1840 وفرض «معاهدة لندن» التي تضمنت وضع سقف على حجم الجيش المصري، ثم ثورة عرابي وما تلاها من احتلال بريطاني لمصر عام 1882 بعد معركة «التل الكبير»، ثم إن كافة السياسات والاتفاقيات سعت لوضع سقف للجيش المصري حتى لا تقوى الدولة المصرية، إلى أن جاءت نكسة 1967 لتعبر عن زلزال حقيقي للدولة المصرية لم تفُق منه إلا بعد انتصار الجيش المصري في 1973.

وتقديري، أن هذه الحقائق غابت عن الكثيرين عند تناول أحداث ثورة 30 يونيو ومحاولة قلب الحقائق على اعتبار ما حدث بعد ذلك انقلابا عسكريا، فلو تجاهلنا كل الحقائق السابقة، فإن نظرة إلى التلاحم بين المواطن وجيشه خلال المناسبات الكثيرة منذ ذلك التاريخ يمثل نموذجا خارج النص المعروف أو المعهود، سواء في السلوك السياسي في تاريخ الديمقراطيات الغربية أو في أنماط العلاقة المثبتة في العلوم السياسية بين الجيوش والتطور الديمقراطي في الدول النامية، فالنموذج اللاتيني، وبدرجة أقل الأفريقي، يظل طاغيا على اللاوعي السياسي والأكاديمي الغربي، ففي هذا النموذج لا مكان للجيش كأداة للتطور الديمقراطي، ومن ثم صعوبة قبول ما حدث في مصر، وقد عضد من صدمة اللاوعي الغربي حقيقة إمكانية قيام شعب بثورة شبه جامعة على نظام ديمقراطي منتخب، ويزيد من صعوبة التقبل مساندة الجيش لها بما يمثل خرقا للنظرية والتطبيق التقليديين لدور الجيش كمؤسسة تسعى للاستئثار بالسلطة في الدول النامية، وهنا لا تكون المشكلة في الشعب والجيش المصريين اللذين صنعا نمطا جديدا، ولكن في الأنماط الفكرية الرافضة لقبول ما هو خارج النص الأكاديمي والسياسي، بل اللاوعي أيضا.

* كاتب مصري