حقوق الإنسان والثورة السورية

جمال قارصلي

TT

ها هي تمر علينا الذكرى الـ65 لليوم العالمي لحقوق الإنسان، والتي تتزامن مع مرور ألف يوم على انطلاق ثورة الحرية والكرامة في سوريا. في هذا اليوم (10-12-1948) أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة حق كل إنسان في التمتع بالحرية والكرامة والمساواة، مهما كانت صفاته ولونه وعرقه ودينه. هذه الحقوق ليست محصورة على مجتمع معين، بل صالحة لكل مكان في العالم ولكن وللأسف يتفاوت تطبيقها بين مجتمع وآخر، متأثرا بمستواه الحضاري والفكري وبتراثه ومعتقده وعاداته وتقاليده. كذلك الانتهاكات لحقوق الإنسان تتفاوت بين مجتمع وآخر، وأكثرها لا إنسانية هي التي تجري تحت حكم الأنظمة القمعية والاستبدادية والديكتاتورية. هذه الانتهاكات تستفحل وتزداد قسوة في الظروف الاستثنائية مثل الحروب والكوارث. ما يعانيه الشعب السوري الآن من مجازر وعمليات تهجير وتشريد وإهانة وذل في داخل سوريا وخارجها قد تجاوز كل التوقعات والتصورات، ولم يسبق لشعب آخر أن مر بمثل هذه الكارثة، وما يعيشه هذا الشعب الآن لا يمكن وصفه إلا بالمأساة المليئة بالفظائع والانتهاكات اللاإنسانية. عدم اكتراث بعض الأنظمة العربية بالقرارات الأممية لحقوق الإنسان ولعقود طويلة، وكذلك استهتارها بالقيم والمبادئ الإنسانية التي استنبطها المجتمع من دينه وتراثه وحضارته، من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى اندلاع الثورة في سوريا وفي دول عربية أخرى.

إن تراكم الانتهاكات لحقوق الإنسان في أي مجتمع كان ولحقبة طويلة قد يؤدي في نهاية المطاف إلى ردود فعل عكسية تأخذ بالمجتمع إلى حالة لا تحمد عقباها. ألم تكن عملية اعتقال أطفال درعا هي الشرارة التي أدت إلى إشعال نار الثورة السورية والتي كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وخصوصا عندما سمع أهالي وأقارب الأطفال المعتقلين بأن أطفالهم يتعرضون للاغتصاب ولاقتلاع الأظافر والتعذيب من قبل رجال الأمن؟ كذلك الاعتقالات التعسفية الكثيرة وآليات التعذيب في المعتقلات وإساءة معاملة المعتقلين وموت بعضهم تحت التعذيب واختفاء بعضهم قسريا كانت لدى شريحة كبيرة من المعتقلين السابقين الذين تم الإفراج عنهم سببا مباشرا للانخراط في صفوف الثورة السورية وبحماس شديد. هؤلاء الشباب أصبحوا يشعرون بأنهم أضاعوا أغلى ما يملكونه في حياتهم، ألا وهي كرامتهم، بسبب انتهاك رجال الأمن لها ولفترات طويلة، وأصبحوا يحسون في قرارة أنفسهم بأنهم منزوعو الكرامة والحرية، فلهذا فضلوا الموت على حياة الذل والعبودية والقهر وصار شعارهم: الموت ولا المذلة! الأنظمة العالمية والمؤسسات الأممية تصل إليها تقارير كثيرة حول انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا ودول أخرى، ولكنها لا تحرك ساكنا وتكتفي بالاستنكار والشجب، وهي تعلم أن هذه الأنظمة الديكتاتورية تدوس على حرية وكرامة مواطنيها بالأرجل ولا تطبق أيا من القرارات الأممية لحقوق الإنسان. بعض هذه الدول تذهب إلى أبعد من ذلك وتتعامل مع هذه الديكتاتوريات بمعايير مزدوجة بخصوص حماية حقوق الإنسان، وتقوم وبشكل مباشر بدعم انتهاك هذه الحقوق في تلك الدول. على سبيل المثال، لا تسمح قوانين كثير من الدول المتحضرة بانتزاع الاعترافات من المتهمين تحت التعذيب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، فتقوم هذه الدول باستجداء «خدمات» الأنظمة القمعية لكي لا «تتلوث» أيديها بمثل تلك الأفعال غير الإنسانية، التي أساسا يعاقب عليها قانون بلادها، فترسل من تريد استجوابهم إلى هذه الأنظمة الديكتاتورية مثل ما حصل مع معتقلي غوانتانامو، الذين وجهت إليهم تهمة العمل مع تنظيم القاعدة. عملية الاستجواب هذه تجري تحت أقسى أنواع التعذيب واللاإنسانية من أجل إجبار المتهمين على الاعتراف بجرائم ربما لم يقوموا بارتكابها. «النظام» في سوريا كان أول من قدم «خدمات» كهذه لمثل هذه الدول، وكان يريد بواسطتها أن يبرئ أعماله الإجرامية التي يقوم بها ضد مواطنيه، وكذلك التقرب من أصحاب القرار في تلك البلاد.

بفارغ الصبر ينتظر الشعب السوري اليوم الذي تجري فيه معاملته من قبل سلطة بلاده بشكل إنساني وتقوم على صيانة كرامته وحقوقه وحريته في التظاهر والاستنكار والشجب من دون أن يقوم رجال الأمن بقتله بالرصاص الحي أو اعتقاله وإهانته والمساس بكرامته. ألا نتذكر الرجل السوري في التلفاز وهو يقول باكيا بسبب المعاملة اللاإنسانية التي تلقاها من قبل رجال الأمن في سوريا: «أنا إنسان.. ماني حيوان». للأسف في كثير من دول العالم يوجد للحيوان حقوق أكثر من الإنسان الذي يعيش تحت أنظمة ديكتاتورية قمعية فاشية.

كل من يعتبر نفسه إنسانا عليه أن يدافع عن حقوق الإنسان وفي كل مكان من العالم لأنه بذلك يدافع عن حقوقه الشخصية، وعلى المجتمع الدولي أن يحمي هذه الحقوق ويصونها، وأن لا يفرق بين إنسان منحدر من مجتمع فقير وآخر من مجتمع غني، أو من دولة قوية وآخر من دولة ضعيفة، فيكون بذلك قد حمى حقوق أغلى ثروة في الدنيا وأقدس شيء من المخلوقات.. ألا وهو الإنسان.

* نائب ألماني سابق من أصل سوري