سراقب تترك وحيدة لتتعايش مع أسلحة الأسد الكيماوية

زبد يخرج من أفواه الضحايا وبياض أعينهم يستحيل احمرارا

أحد أحياء سراقب بعد تعرضه للقصف بغاز السارين
TT

إن التفاصيل الموجودة في الأنقاض هي ما يكشف فداحة ما وقع في سراقب.. حذاء طفل موشح باللون البني مبعثر بين الأنقاض، بجوار فنجان صيني مكسور.. قطع أثرية من الحياة اليومية متناثرة على كوم من الأسلاك الملفوفة وحجارة بناء محطم. هذه الصورة هي مجرد وصف لمنزل منهار في شارع مدمر، ومجرد شارع واحد في حي مهجور يعج بشوارع مماثلة.

الصوت الوحيد الذي يكسر الصمت المطبق في المكان هو أصوات طنين الطائرات العامودية التابعة لنظام الرئيس بشار الأسد، وأزيز رصاص بندقية كلاشنيكوف يتسلى بها مقاتل ضجر في أحد المباني الخاوية. غير أنه فيما يبدو أمرا جنونيا، لا يزال متجر لبيع المثلجات يفتح أبوابه وسط كل هذا. وفي ظل الحرارة القائظة في فترة الظهيرة من أحد أيام مايو (أيار) في إدلب، وسط سوريا، يصطف مقاتلو الجيش السوري الحر، الزبائن الوحيدون، بزيهم العسكري غير المرتب أمام طاولة عرض المثلجات ذات الألوان الفاتحة.

اعتادت سراقب القصف والتفجيرات وأسلحة الحرب التقليدية الأخرى، ولكن قبل 3 أسابيع، تغيرت أدوات اللعبة.

في عيادته الفسيحة في الطابق الثاني من مبنى عادي في الشارع الرئيسي بالمدينة، يفتح الدكتور محمد وليد تامر حاسوبه ويعرض مقطع فيديو. يظهر الشريط صورة بانورامية عامة للمدينة، وبرميلا من المتفجرات يتم إسقاطه من طائرة تابعة لنظام الأسد على أحد الشوارع. وحالما يصطدم البرميل بالأرض وينفجر تنبعث سحابة دخان كثيفة وغبار يتصاعد عاليا في الهواء.

يوقف الطبيب مقطع الفيديو، ثم يعيد الثواني الأخيرة. يقول: «انظروا». ويشير إلى خيال شيء صغير يطير على ارتفاع 4 أمتار فوق الأنقاض، ويصيح قائلا: «إنه شخص».

يعرض المقطع الثاني حال المدينة بعد القصف: مدنيون يهرعون إلى عيادة لإنقاذ أناس أجسادهم تكتسي باللون الرمادي من أثر الغبار ويحتاجون لنقل دم، و4 أشخاص يحملون امرأة ميتة على فراش نظرا لعدم وجود نقالات جرحى كافية. يقول الطبيب: «عند هذه اللحظة، لم ندرك ما حدث. لكننا ما لبثنا أن فهمنا خلال نصف ساعة». بمجرد أن رأينا رغاوي تخرج من أفواه المصابين، عرفنا أنه هجوم بأسلحة كيماوية. توقفت الكاميرا عند شاب يتنفس بصعوبة؛ سائل أبيض يشبه اللبن يخرج من فمه، أما عينيه فاستدق البؤبؤ فيهما بينما استحال لون الصلبة (بياض العين) من البياض إلى الاحمرار. أدى ذلك الهجوم الجوي في ذلك اليوم إلى مقتل 26 شخصا، وفي الأيام التالية لاحظ الأطباء في مشفى سراقب وجود عشرات الأشخاص الذين يعانون من الأعراض الناجمة عن السحابة السامة التي خلفتها القنبلة. يضيف الدكتور تامر: «وحتى أولئك الذين ذهبوا إلى الموقع لمساعدة الجرحى كانوا يصابون بالدوار ويتقيأون، وكذا الأمر مع سائقي سيارات الإسعاف، والأطباء الذين عالجوا المرضى في العيادة شعروا بصداع وآلام في المعدة».

عقب الهجوم مباشرة، بدأ السكان، البالغ عددهم نحو 50 ألف نسمة، الفرار من المدينة، وأصبحت «سراقب أشبه بمدن الأشباح»، يقول الطبيب، مضيفا أنه «رغم ذلك ما زال القصف مستمرا، وقد أدى هجوم آخر إلى مقتل 10 أشخاص».

في البداية، اعتقد الدكتور تامر وزملاؤه أن سبب حالات القيء وصعوبة التنفس هو غاز الفوسفور، ولكنهم كانوا بحاجة للحصول على أدلة، حتى في ظل حالة الفوضى التي كانت تجتاح سراقب خلال الساعات الأولى للهجوم. وقال تامر: «أخذنا عينات من التربة وملابس المصابين على الفور. لم يكن لدينا الأدوات اللازمة لفحص هذه العينات هنا بالشكل المناسب، ولذا قمنا بإرسالها إلى تركيا، وعندما قامت أجهزة الاستخبارات هناك بفحص هذه العينات اكتشفت أن الغاز المستخدم هو غاز السارين».

في ذلك اليوم، سقط برميلان من غاز السارين ممزوجين بمادة «تي إن تي» المتفجرة على مدينة سراقب، وأدى كل منهما إلى تسمم مساحة يصل قطرها إلى كيلومتر واحد. وكان هناك برميل ثالث لم ينفجر بالشكل المطلوب، وعن ذلك يقول الطبيب: «عندما وجدنا هذا البرميل، اكتشفنا أنه يحتوي على الفوسفور. ونعتقد أن نظام الأسد أسقطه متعمدا لكي يخفي حقيقة أنه قام بقصف المدينة بغاز السارين. لعله أراد من ذلك الادعاء بأن الناس تعرضوا للتسمم بسبب حادث زراعي، نظرا لأن الفوسفور يستخدم في صناعة الأسمدة». وحتى الآن، ضحايا ما بعد استخدام غاز السارين في سراقب سيدة مسنة تدعى مريم الخطيب، غير أن تامر قد قام بجمع أسماء عشرات ممن تعرضوا للتسمم وتحسنت حالتهم الصحية بعد ذلك، بما في ذلك سيدة حامل في الثامنة عشرة من عمرها، وربما يعانون من تأثيرات على المدى الطويل.

وتعد الملفات الموجودة على جهاز هذا الطبيب دليلا على أن نظام الأسد تجاوز «الخط الأحمر» الذي وضعه الرئيس الأميركي باراك أوباما في سراقب. ورغم كل ذلك، لم يكن هناك رد فعل قوي من جانب المجتمع الدولي، ويعتقد تامر أنه لن يكون هناك رد فعل في المستقبل، مضيفا: «في البداية، سوف يسألون عما إذا كان من قام بذلك هو النظام أو المعارضة، وبعد أن يتأكدوا من أن من قام بذلك هو النظام، سوف يسألون هل من قام بذلك هو ماهر الأسد أم بشار الأسد، وحتى عندما يعلمون أن من قام بذلك ربما يكون ماهر الأسد، فإنهم لن يقوموا بأي شيء في نهاية المطاف». وعليه، تركت سراقب وحيدة لتتعايش مع الحرب الكيماوية التي يشنها نظام الأسد، بعدما نفدت أدوية «الأتروبين» اللازمة لعلاج المصابين بغاز السارين من المستشفيات، علاوة على عدم وجود أقنعة للوقاية من الغاز أو ملابس واقية للعاملين في سيارات الإسعاف والمستشفيات، وعدم وجود أكسجين أو مراوح لعلاج ضحايا أي هجوم بالأسلحة الكيماوية في المستقبل. ويتوقع تامر مزيدا من الهجمات في المستقبل، قائلا: «هذه نقطة استراتيجية في سوريا؛ إذ تقع سراقب في طريق الإمداد الرئيسي من دمشق إلى الشمال، وعليه لن يكون هذا هو الهجوم الوحيد».