شبح «الطائفية» يحوم في اللاذقية وأهلها ينشدون العيش المشترك

سكان الساحل يتوقعون عمليات انتقامية بعد مجازر بانياس

صالح خالد وعائلته، آخر أسرة علوية في دركوش بإدلب («الشرق الأوسط»)
TT

تختلف الخيام البيضاء المتسقة بين التلال الخضراء في مدينة اللاذقية عن الصورة النمطية لمخيمات اللاجئين السوريين في منطقتي أطمة التركية والزعتري الأردنية، رمزي الكارثة الإنسانية السورية في وسائل الإعلام، من حيث إنها منظمة ومرتبة ولا توجد فيها قذارات، إلا أن الداخل للمخيم، المختبئ خلف الأشجار، والمتحدث مع ساكنيه، يشعر أن الحرب في سوريا تأخذ منحا طائفيا يوما بعد يوم.

يشرح آدم، وهو يشرب كوبا من الشاي، كيف أنشئ المخيم في هذه البقعة من الأرض، بالقول إن والدته سمعت أن بعض الأشخاص ينامون تحت أشجار هذه المنطقة بعدما هربوا من الأعمال القتالية في مدينة إدلب، شمال سوريا، مضيفا أن والدته شرعت «في إقامة الخيام وطهي الطعام للاجئين».

ويوما بعد يوم بدأ مزيد من الأشخاص يتوافدون نحو المخيم المستحدث بجهود ذاتية، لكن قبل شهرين بدأ لاجئون من مدن أخرى يصلون إلى المخيم. لم يغادر الوافدون الجدد منازلهم بفعل القصف أو الاشتباكات في الشوارع، مثل سكان حلب أو دير الزور، بل خوفا من انتقام قوات نظام الرئيس بشار الأسد. يقول آدم: «كان وصول أهل اللاذقية إلى هنا صدمة. فالمدينة آمنة ولم يلحق بها ضرر جراء الحرب على غرار بقية المناطق المشتعلة في سوريا»، مشيرا إلى أن نزوح أهالي اللاذقية بهذا الشكل ما هي إلا «إشارة إلى مدى تحول هذه الثورة إلى حرب طائفية». يقول آدم إن «معظم الناس الموجودين هنا (من اللاذقية) شهدوا اعتقال أفراد من أسرهم من قبل النظام. وهم في حالة من الذعر الشديد، لذا لا يستطيعون البقاء بعد الآن في اللاذقية. علاوة على ذلك، فإنهم يخشون احتمال وقوع مزيد من المجازر للسنة في المناطق العلوية، على غرار ما حدث في بانياس».

على بعد ساعتي سفر من اللاذقية، تقع قرية دركوش، وهناك التقت «الشرق الأوسط» صالح خليل في حديقة منزله التي يغمرها ضوء الشمس. يصف خليل كيف يشاهد العكس يحدث الآن. ويقول: «كان من المعتاد وجود كثير من الأسر العلوية في هذه المنطقة. لكن الآن، نحن الوحيدون الباقون». لا يعرف خليل أين ذهب جيرانه القدامي، فـ«هواتفهم مغلقة»، على حد تعبيره، لكنه يعتقد أنهم ذهبوا إلى اللاذقية، ليشغلوا المساحات الخاوية التي خلفها السنة وراءهم. وعلى غرار اللاجئين في الجبال، يحدو خليل وعائلته خوف من المستقبل. غير أن الخوف بالنسبة لهؤلاء العلويين يتعلق بالهجمات الانتقامية من قبل جيرانهم وأصدقائهم السابقين، السنة، ومن انتشار «الحريق الطائفي» الذي يصب كل عمل وحشي جديد عليه زيتًا. يؤكد صالح، ذو الـ63 عاما، أنه لا يود مغادرة منزله، لكن ثمة أشخاص هنا قد يفضلون أن يغادر منزله، فقبل أسبوعين اعتقله مقاتلون من التيار الإسلامي، واحتجزوه وآخرين من أفراد الأسرة بتهمة العمل لحساب النظام.

ويضيف قائلا: «بعض العلويين في هذه المنطقة عملوا بالفعل شبيحة للنظام. لكننا ندعم الثورة ولن يعثروا على أي دليل ضدنا». ومنذ الإفراج عنه وأفراد من أسرته، يقيم صالح وأسرته تحت حماية كتيبة أخرى، ويشرح: «لم نكن نعرف هؤلاء المقاتلين من قبل»، في إشارة إلى رجال مسلحين جالسين حوله، مضيفا: «لكن عندما سمعوا بما قد حدث بدأوا بزيارتنا يوميا للتحقق من أننا على ما يرام».

وفي بلدة القنية المجاورة، يعتبر أركان خليل وأسرته الأقلية الوحيدة المتبقية في القرية. يقول أركان: «انتقلنا إلى هنا عندما بدأ القتال. إنها قرية مسيحية، ونحن الأسرة المسلمة السنية الوحيدة. لكن الجيران أصدقاؤنا ونشعر بالأمان. من المستحيل أن نتسبب في مشكلات بين المسيحيين والسنة في هذه المنطقة». عاش أركان وأسرته في جسر الشغور، وهي مدينة متعددة الثقافات تفصلها بضعة كيلومترات عن منزله الحالي. إلا أن المدينة لا تزال خاضعة لسيطرة النظام، وعلى مدى عامين لم يتمكن من العودة إلى منزله.

«تعين علينا أن نرحل عندما سمعنا أننا مطلوبون من قوات الأمن»؛ يقول أركان وهو ينظر إلى زوجته فريدة والدموع تملأ عينيها. تستذكر الزوجة ما حدث في منزلهم قبل أن تتخذ الأسرة قرارها بالرحيل، بالقول: «أتى أفراد من الشبيحة واستولوا على كل شيء. حتى إنهم استولوا على دمى الأطفال. ونحن نعلم من كانوا.. كانوا أقارب أحد أصدقائنا».

ويتوقع أركان وفريدة السنية غير المحجبة، حصول هجمات انتقامية على العلويين بعدما ارتكبوه من فظاعات في جسر الشغور، لكنهما يؤكدان على أن لا رغبة ليدهما في الانجراف إلى دائرة الانتقام، ويقول أركان: «ستحدث مشكلات بين السنة والعلويين. وستكون هناك هجمات انتقامية على الأفعال التي يرتكبها العلويون. لكن لدينا أصدقاء علويون، وما زالوا يتصلون بنا ويسألوننا عن أحوالنا». وفي قرية اليعقوبية المجاورة، مرر المسيحي المسن رياض ميستيركا وصديقه السني سبحة صلاة بينهما أثناء حديثهما عما يجري في قريتهما. وقال: «كان هناك 1500 شخص في اليعقوبية، والآن هناك 250 شخصا»، مضيفا: «النظام يرسخ في أذهاننا أفكارا مفادها أن الثوار سيقتلوننا نظرا لأننا لسنا سنة. ومن ثم عندما غادر جيش النظام غادر كثير من المسيحيين معهم».

ظل مسيحيو سوريا على مدى السنتين الماضيتين بمعزل عن القتال. ويقول رياض: «لن ننضم إلى الكتائب نظرا لأن الأسلحة ليست جزءا من آيديولوجيتنا». لكنهم مع ذلك يجرفون إلى النزاع، فقد قصف كثير من الكنائس في هذه المنطقة، بينما استخدمت أقدم كنيسة أرمنية في سوريا، وهي كنيسة «القديسة آنا»، لعدة أشهر «قاعدة لقوات النظام». ويضيف: «قس الكنيسة دعاهم للدخول. وأحالوها من دار عبادة مقدسة إلى قاعدة عسكرية». ويشير إلى أن مثل هذه الصور من انتهاك قدسية دور العبادة يعتبر دليلا على أن النظام يعجز عن تأمين الأقليات في الدولة. ويقول: «إنها أكذوبة كبرى أن الأسد حمانا. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحمينا هو علاقات الصداقة بين جماعاتنا».