انقطاع التيار الكهربائي يعمق معاناة السوريين

سد الفرات.. يسيطر عليه الثوار ويعمل بـ70% من طاقته الإنتاجية

سد الفرات الذي يحجز خلفه كمية من المياه تصل إلى 14 مليار متر مكعب في بحيرة الأسد (خاص بـ «الشرق الأوسط»)
TT

بات انقطاع التيار الكهربائي أمرا مألوفا لدى السوريين خصوصا في الليل، الذي تذكر ظلمته الحالكة وسكونه المطبق الجميع بمدى اعتمادهم الكبير على الكهرباء وكيف كانت من المسلمات بالنسبة لهم في وقت من الأوقات.

مع انقطاع التيار الكهربائي يختفي طنين محرك الثلاجة ومراوح أجهزة الكومبيوتر المحمولة وضجيج التلفزيون. تذهب كل هذه المظاهر تاركة هدوءا يخيم على الغرفة إلى أن يبدأ المولد عمله ويمتلئ الهواء بدخان المازوت ويعود صوت الأجهزة الكهربائية مرة أخرى. لكن عندما ينقطع التيار الكهربي خلال اليوم يكون الوضع أكثر سوءا لأنه لا يمكن لأحد أن يبرر حرق الوقود للحفاظ على استمرار الكهرباء. ولذا عندما تعود الكهرباء إلى المنازل في سوريا يسارع الجميع إلى شحن هواتفهم الجوالة، وكاميراتهم وحاسباتهم المحمولة وعندما تنطفئ مرة أخرى يتمنى الذين لم يشحنوا أدواتهم الكهربائية لو أنهم فعلوا.

لكن رغم ذلك وجد السوريون طريقة للتعايش، فالأطفال في حلب يقفزون على الأدراج المعتمة في الأبنية السكنية كما لو كانوا في وضح النهار، وأصحاب المتاجر يبيعون القداحات المزودة بمصابيح صغيرة مدمجة في أطرافها، ونظرا لأن الجميع يدخنون هنا، فالجميع هنا يحملون هذا النوع من القداحات. وفي أحد المراكز الإعلامية التابعة للمعارضة أضاء الناشطون سلسلة من مصابيح (LED) القادرة على العمل لساعات ببطارية واحدة بقوة 12 فولتا وإضاءة الغرفة بصورة تمكن الجميع من القيام بمهامه. ولا يفتقد المرء الضوء إلا بالخروج إلى الشارع المليء بالحفر.

أصبح انقطاع التيار الكهربي أمرا عاديا في حياة السوريين، حتى أن أحدا لم يعد يعلق عليها، ولا أحد يتساءل عن السبب في حدوثه أيضا فتلك هي إحدى مصاعب العيش في منطقة قتال. لكنك إذا ما حاولت تقفي أثر انقطاع الكهرباء من مصادرها فسوف تصل إلى واحد من أكثر الموضوعات أهمية في هذا الصراع.

سد الفرات الواقع في محافظة الرقة (شمال وسط) كان محور مشروع الرئيس الراحل حافظ الأسد لبناء سوريا الحديثة. أدى بناء السد، الذي انتهى العمل به عام 1970، إلى تكوين بحيرة الأسد الصناعية، أكبر خزان مائي في البلاد. كان المشروع باكورة إنجازات حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا في القرن العشرين؛ فهو أحد عجائب الهندسة المدنية ومزود بأحد التقنيات السوفياتية. ولتحويل هذا المشروع إلى نصب يخلد النظام البعثي نصب تمثال نصفي هائل للأسد الأب جنبا إلى جنب مع نماذج مصغرة للسد وواحدة من التوربينات في بهو المدخل. ولاستكمال عملية التحويل، عمد البعثيون إلى تغيير اسم البلدة التي يقع فيها السد من اسم مدينة «الطبقة» إلى مدينة «الثورة».

لا تزال النماذج المصغرة للسد قائمة في البهو لكن التمثال النصفي اختفى بعدما أضرم مقاتلو جبهة النصرة النار فيه عندما استعادوا السيطرة عليه مرة ثانية في فبراير (شباط) الماضي. ومن المثير للمفارقة، وربما الرمزية، فقد كان الاستيلاء مطلبا شرعيا من قبل مقاتلي الثورة لإسقاط النظام البعثي. وعندما زرنا المكان بعد 3 أشهر من سيطرة مقاتلي جبهة النصرة عليه كانت قاعدة التمثال هي كل ما تبقى منه، وكان يحرس المدخل أحد مقاتلي جبهة النصرة الذي بدا وكأنه يشعر بالملل. وبعد محادثة قصيرة معه سمح لنا بالتوجه إلى غرفة التحكم في السد، حيث وجدنا حسام، يؤدي عمله وكأن شيئا لم يتغير على الإطلاق.

حسام ليس اسمه الحقيقي، فقد تحدث إلينا شريطة عدم ذكر اسمه. وهو مهندس كان على مدى العامين الماضيين جزءا من الفريق الذي يحافظ على استمرار تدفق الكهرباء التي يتم توليدها من السد. كان عدد العاملين في السد قبل اندلاع المعارك للسيطرة عليه 720 عاملا، أما الآن فلا يعمل به سوى 50 فقط. غادر بقية العاملين ولم يعودوا على الإطلاق عندما سيطر الثوار على السد. يرى حسام أن من رحل هم المنتفعون اللذين أتت بهم الدولة بغرض صرف رواتب لهم، مضيفا أن «الأفراد الذين واصلوا العمل هنا هم الأفراد الذين يقومون بالأساس بكل العمل، أما البقية فقد حصلوا على وظائفهم هنا من خلال علاقاتهم بالنظام».

يجلس حسام على كرسي دوار أمام لوحة ضخمة، بدت وكأنها جزء من برنامج مسابقات تلفزيوني. وأشار إلى مصابيح مضيئة على خارطة كبيرة تمثل إمدادات الطاقة إلى مدن وسط وشمال غرب سوريا: حلب والرقة وحمص وحماة. وأظهرت المصابيح الكهربائية الأماكن التي تتمتع بالإنارة والأماكن التي تشهد انقطاعا في الكهرباء. من على كرسيه يمكن لحسام مشاهدة تمثيلا مرئيا لآلاف الثلاجات وأجهزة التلفزيون التي انقطعت عنها الكهرباء بشكل غير متوقع، مع الإيحاء بأن طنين مولدات لا تعد ولا تحصى في أماكن غير بعيدة على الإطلاق.

من بين خطوط التيار الكهربائي السبعة التي تخرج من السد هناك خطان لا يعملان، شاهدان على زعم حسام بأن نقص القوى العاملة لم يكن له سوى تأثير ضئيل على تسيير المرفق. وحتى عندما كانت المعركة مستعرة حول سد الفرات لم تتأثر نسبة إنتاج الكهرباء على الإطلاق. وأوضح حسام أنه عندما استشعر بأن البقاء لا طائل من ورائه وخطر للغاية عاد إلى منزله، لأن السد كان قد تم الاستيلاء عليه بالكامل من قبل مقاتلي الثورة السورية.

وبعد يومين، بعدما علم بأن المعركة انتهت، وأن قوات النظام قد تركت مواقعها في السد وأن الثوار سيطروا بالكامل من السد، عاد إلى مكتبه لاستئناف عمله. وبدا وكأنه قد تم التوصل إلى نوع غريب من الهدنة. ووفقا لحسام، سمحت قوات الثوار المبتهجة بتوفير ممر آمن لمجموعات من المهندسين التابعين للنظام بدخول السد لإصلاح الضرر، وإعادة تشغيل محطة توليد الكهرباء مرة أخرى.

حكاية حسام يمكن تصديقها لسببين. أولا عندما زرنا السد كان يعمل بشكل طبيعي، لكن بطاقة ضعيفة للغاية، على الرغم من وقوعه في أيدي المتمردين منذ أن استولوا عليه في فبراير (شباط) الماضي وكان في خضم معركة استمرت لعدة أيام. الأمر الثاني ما يتضح من أن الثوار سمحوا للمهندسين في السد بالاستمرار في عملهم دون انقطاع. ويظهر الفيديو الذي نشر على موقع «يوتيوب» مسلحين يتجولون في قاعة التوربينات ويصافحون المهندسين الذين بدوا غير متضايقين من هذا التحول في الأحداث. وقد يبدو غريبا أن يتم حراسة السد، أكبر السدود الكهرومائية في سوريا، بمقاتل واحد فقط، فقد قمنا في وقت سابق بزيارة لحقل نفط استولى عليه الثوار أيضا وكان يخضع لحماية مجموعة من عشرة مقاتلين على الأقل، الذين تأكدوا من أوراقنا الثبوتية أثناء دخولنا ومن صندوق السيارة أثناء خروجنا.

توفر السدود الكهرومائية جزءا صغيرا فقط من احتياجات الطاقة الكهربائية في سوريا، لكن سد الفرات ينتج وحده 800 ميجاوات، وهو الأكبر في البلاد. وسيكون انقلابا سهلا بالنسبة للنظام أن يترك الأمر ليتعثر في أيدي الثوار، مما يتسبب في انقطاع التيار الكهربي عن مزيد من المنازل والشركات في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. علاوة على ذلك، يحذر الخبراء من أنه إذا لم يتم الحفاظ على السد فقد يتسبب في زيادة هائلة في المياه أسفل الفرات، ليغرق مدنا مثل دير الزور وربما مدنا أخرى في العراق.