أزمة «الليرة» تحل ضيفا ثقيلا على بيوت السوريين

هروب التجار والصناعيين والمصرفيين أدى إلى نقص السيولة

متجر حسن للصيرفة («الشرق الأوسط»)
TT

في ظهيرة يوم شديد الحرارة، تكاد تخرج من جلدك وأنت تنتظر دورك في متجر حسن للصيرفة، فالدكان متناهية في الصغر ومنقسمة إلى شطرين؛ قسم للزبائن، ويتجمع فيه عشرات الأشخاص، وقسم لحسن وشريكه الجالسين خلف نافذة البيع وأمامه شاشة كومبيوتر تشير إلى أسعار العملات.

اليوم بيع الدولار الأميركي الواحد مقابل 255 ليرة سورية، وبالأمس، كان سعر الصرف 300 ليرة مقابل الدولار الواحد، وغدا لا يمكن لأحد أن يخمن سعر الصرف الذي ستعرضه شاشة الكومبيوتر. يقول حسن حول هذا التقلب في الأسعار إن «العملة كانت مستقرة قبل الثورة. كان الدولار يعادل 47 ليرة سورية، وكان سعر الصرف يرتفع أو ينخفض بنسبة طفيفة. لكن في الشهر الماضي، انهارت العملة السورية. حينما سجلت أضعف قيمة لها قبل بضعة أسابيع، كنا نبيع 346 ليرة سورية مقابل الدولار». تطلب وصول الحرب إلى جيوب الطبقة المتوسطة في سوريا وقتا طويلا. تسللت أزمة العملة ببطء إليهم. أولا، بدأ سعر الوقود يرتفع، مع قطع نظام الرئيس بشار الأسد الإمدادات الموجهة للمناطق التي يسيطر عليها الثوار. وتم إغلاق كل محطات البنزين في حلب، كما أن معظم هياكل الأفنية الأمامية للمباني قد انهارت بفعل القصف الهائل. الآن، يأتي الوقود من حقول النفط في شرق سوريا التي استولت عليها كتائب الثوار. على غرار بقية سكان المدينة، نملأ عربتنا بمادة البنزين من أحد الباعة المتجولين على جانب الطريق، لكن هذا الوقود يأتي بسعر مرتفع. قبل عامين، كانت تكلفة اللتر الواحد 44 ليرة سورية، واليوم ندفع 325 ليرة سورية للتر. انخفضت أسعار الوقود المرتفعة، لكن ارتفاعها الجنوني في السابق أدى إلى ارتفاع تكلفة المواد الغذائية؛ بات من اللازم نقله من الريف إلى المناطق الحضرية مثل حلب، وبسعر مرهون على تكلفة الوقود.

وعلى الرغم من أن متاجر بيع الشاورمة والكباب ما زالت مفتوحة، فإنها تخفي معاناة السوريين الذين باتوا يعانون فقرا مدقعا في دولة لا تستطيع دعم السلع الغذائية الأساسية، إذ أصبح سعر ربطة الخبز (9 أرغفة تقريبا)، 130 ليرة الآن بعدما كانت تشترى بـ15 ليرة سورية. وقد اتجه البعض إلى مخيمات اللاجئين، حيث يتم إعطاؤهم وجبة غذائية يومية. البعض يتناول وجبة واحدة فقط يوميا، والبعض يبيع ممتلكاته قطعة تلو الأخرى «لم يعد أحد يستطيع تحمل تكلفة شراء أي شيء خلاف الطعام»، هذا ما أخبرني به شخص حلبي.

غالبية المتاجر التي تبيع السلع الاستهلاكية أغلقت أبوابها في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في حلب، لكن القليل منها الذي لا يزال مفتوحا يبدو خاويا إلا من العاملين. لا تحتاج لسؤالهم عن أحوالهم فتعبيرات وجوههم الضجرة لهي أبلغ وأفصح تعبير عن الحالة التي يعيشونها من أي كلام.

وبعد التجار، فر الصناعيون، وفي المنطقة الصناعية بحلب، التي كانت في السابق، أكبر مركز للشركات الصناعية في سوريا، نقطع بالسيارة الشارع تلو الآخر، ولا نرى إلا مصانع تم إخلاؤها من الأجهزة وباتت مهجورة.

كان يوجد في المعتاد أكثر من ألف شركة هنا، أصغرها كانت توظف قرابة 200 شخص. ولكن مع تعمق الأزمة، انتقل أصحابها إلى تركيا أو مصر أو أي مكان يمكنهم فيه ضمان أنه لن يتم تسريحهم. وجميع الناس الذين عملوا بهذه الشركات، ربما بإجمالي مائتي ألف شخص، قد فقدوا وظائفهم ودخولهم، الأمر الذي يزيد تعاستهم بصورة أكبر. بعد أن أغلقت المتاجر أبوابها، أغلقت المصارف بالمثل. تشغل مقراتها ركنا صغيرا من المنطقة الصناعية، كما أنها مهجورة ويتم نهب تجهيزاتها. لقد تم تحويل مقرات أحد المصارف إلى مكتب إعلامي على يد كتيبة للثوار. كانت مجموعة من المقاتلين نائمة بجوار المياه، حينما قمنا بزيارة لإجراء مقابلة، ولن يعود موظفو الخزينة في المتاجر في أي وقت قريب.

غير أنه ظلت قيمة العملة السورية مرتفعة إلى حد ما حتى 3 أشهر مضت، عندما تآمرت هذه العوامل الثلاثة معا فجأة لإحداث انهيار مالي مدمر. اعتاد أحمد العمل في شركة تستورد أجهزة كهربائية لسوريا من الخارج، ويعتقد أن نقطة الانهيار حدثت حينما بدأ الثوار يهاجمون دمشق. يقول: «كانت تلك هي اللحظة التي قرر فيها رئيسي نقل شركته خارج سوريا. قام بتهريب مليوني دولار خارج البلاد عبر مصارف تركية. ونحن مجرد شركة صغيرة، وقرر كثيرون آخرون القيام بالشيء نفسه».

في مكتب الصيرفة الخاص بحسن التقيت عبد اللطيف الذي كان يعمل في فرع البنك المركزي بحلب على مدى 20 عاما. يقول عبد اللطيف إنه قبل عام مضى، استنزف نظام الأسد احتياطي المصرف بأكمله، مضيفا: «هرّبوا قرابة 14 مليون دولار من البنك المركزي في حلب إلى البنك المركزي في دمشق. هربوا كل شيء؛ ليرة سوريا ودولارات ويوروات وكل احتياطي الذهب. كان واضحا أنهم يتوقعون سقوط حلب في أيدي المعارضة».

في الوقت نفسه، كانت الحكومة تراقب هروب الأموال من الدولة. يقول: «في كل يوم، تعين علي أن أرصد ما كان يتم تهريبه خارج سوريا. لو كانت هناك مبالغ ضخمة تخرج في مرة واحدة، فعلينا أن نجري تحقيقا في هذا الشأن. أدرك النظام أنه إذا ما خرج رجال الأعمال الكبار، فسوف تنهار العملة».

وقد ثبت هذا بالفعل؛ يقول أحمد: «هناك مثل سوري شهير نصه (المصاري بتروح قبل صحابها). لذلك، فمع كون شوارع حلب ما زالت مكتظة بالبشر، فقد توقفت التجارة فيها؛ لم تعد هناك أي واردات أو صادرات، وأي شخص لديه مدخرات متبقية قام بتحويلها إلى مصارف أجنبية. ويجري التجار الآن صفقاتهم بالدولارات».

ولا تزال الليرة السورية هي عملة الشارع، ولكي نقوم بشراء طعام أو سجائر أو وقود يتعين علينا تغيير الدولارات التي لدينا بليرة من مكاتب الصرافة مثل مكتب صرافة حسن. ويرى حسن أن توافر الليرة بشكل كبير يعود إلى سبب واحد فقط، وهو أن «مكاتب الصرافة ليس لديها سوى أوراق مالية قيمة الواحدة منها 100 دولار، والناس العاديون ليس لديهم ما يكفي من المال لشرائها، ولذا فهم مضطرون لاستخدام الليرة السورية. ولو تمكنا من الحصول على أوراق مالية من فئة 5 أو 10 أو 20 دولارا، فسيبدأ الناس في استخدامها بدلا من ذلك».

ومن خلال شاشة الكومبيوتر الخاص به، يعتقد حسن أنه بدأ يدرك السبب وراء حدوث تقلبات في سعر العملة ومتى تحدث مثل هذه التقلبات، حيث قال: «كلما تمكن الثوار من السيطرة على منطقة جديدة، ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة، ولكن قيمة الدولار تنخفض عندما يجلب الثوار أموالا من الخارج ويبدأون الإنفاق في سوريا». وقال حسن إن الأيام الأخيرة قد شهدت تدفقا كبيرا من الأشخاص الذين يرغبون في الحصول على اليورو، مضيفا: «أعتقد أن الدولارات تأتي من المانحين من دول الخليج، ولذلك ربما يأتي هذا المال من المانحين من روسيا والاتحاد الأوروبي. وربما يكون اليورو هو ما تبقى من احتياطات البنك المركزي».

وتبدو المؤشرات المقبلة من متجر حسن قاتمة للغاية، فالأشخاص الذين لم يستبدلوا بمدخراتهم عملات أجنبية قبل الانهيار، يرون قيمة هذه المدخرات وهي تهبط بشكل كبير، كما أن الفقراء الذين كانوا بالفعل في حالة يائسة بدأت محنتهم تزداد سوءا. ومع ذلك، يعتقد عبد اللطيف، الذي يتمتع بخبرة مالية لمدة 20 عاما، أن المشهد العام قد يكون أفضل مما يبدو عليه، مضيفا: «ربما تكون العملة في المستقبل أفضل مما كانت عليه، وأعتقد أن العملة ستتعافى بعد الأزمة، مثلما حدث في ليبيا، ولكن يجب أولا أن يُهزم الأسد».