حي «صلاح الدين» الحلبي.. خط المواجهة الأول

الاشتباكات تزداد شراسة خلال شهر رمضان عند وقت الإفطار

محمد يراقب تحركات النظام من خلال منظار محلي الصنع («الشرق الأوسط»)
TT

ينظر محمد من خلال منظار مصنوع محليا عبر الثقب الموجود في أعلى الجدار، قائلا «نحن نطلق عليه اسم خط الصفر»، ثم يخفض رأسه قليلا، ويتابع «جنود (نظام الرئيس بشار) الأسد على بعد 10 أمتار فقط من هنا».

يمر خط المواجهة الأمامي بحي صلاح الدين في محافظة حلب (شمال) عبر المنازل والمتاجر وكل الأماكن التي اعتاد الناس أن يعيشوا ويعملوا فيها، وحيث اعتاد الأطفال اللعب في الشوارع. وللوصول إلى خط الصفر علينا العبور في جنح الظلام عبر الحفر الموجودة في جدران المنازل التي باتت مهجورة إلا من ركام مخلفات الحياة اليومية. يقول محمد «ننام مع الفئران التي ترتع حول رؤوسنا هنا»، مضيفا أن بعضا من سكان صلاح الدين غادروا في عجلة شديدة إلى حد أنهم لم يتوقفوا لالتقاط مستندات الهوية خاصتهم. ولم يتبق لديهم الكثير ليعودوا إليه الآن. إن الأعداء على مقربة شديدة إلى حد أنهم قد يقاتلون يدا بيد. يمكنهم سماع بعضهم البعض، حتى لو لم يكن بمقدور كل منهم رؤية الآخر. يقول محمد «نصيح (الله أكبر) فيردون هم بهتافات مؤيدة للأسد». الثوار هنا يستولون على الأرض شبرا تلو الآخر. كان حي صلاح الدين بمثابة خط أمامي لما يقرب من عام الآن. الجائزة التي يطمحون إليها هي قاعدة مدفعية تابعة للنظام على بعد 50 مترا فقط. فمنها يطلق نظام الأسد على مناطق المدنيين في المدينة قذائف الهاون والصواريخ. ويقول الثوار إنهم بمجرد استيلائهم عليها يمكنهم في نهاية المطاف إجلاء قوات الأسد عن حلب.

في الغرفة المجاورة، يعرض لي محمد مصنعا محليا لصنع قنابل يسمونها «كوكتيل المولوتوف» المصنوع من زجاجات العصير المملوءة بالزيت الأسود الثقيل. يقوم بتحميل واحدة وإشعالها، ثم يطلقها من النافذة صوب جنود النظام. لكنها لا تنفجر؛ فالزيت شديد السواء والثقل بحيث لا يمكن أن تعمل القذيفة. لكن هذه هي نوعية الأسلحة التي يجبر الثوار على استخدامها هنا؛ متفجرات محلية الصنع وبنادق قديمة. يعرض علي ثائر آخر بندقيته، المصنوعة في روسيا في عام 1955.

لم يخبر عمر، ذو الـ17 عاما، القتال في صلاح الدين من قبل، لكنه يستعمل حيل حرب العصابات من شخص متمرس. وفي الشارع الواقع خلف المجمع السكني الذي يصنع فيه محمد أسلحته، يعرّف أبو شاهوم عمر كيف يجب أن تصنع الأسلحة. «لن تعمل هذه القنابل مطلقا. الزيت ثقيل جدا»، هكذا يتحدث وهو يشعل إحدى قنابل المولوتوف ويلقيها على الأرض للتوضيح.

يبلغ أبو شاهوم من العمر 35 عاما، وهو سوري خدم في الجيش النظامي وانضم إلى حركة الجهاد ضد القوات الأميركية في العراق في عام 2003، ثم عاد إلى بلده الأم ليتم القبض عليه من قبل قوات الأمن ويسجن لمدة 4 أعوام. وعندما تم إطلاق سراحه عمل كهربائيا، لكن حينما اندلعت الحرب في حلب، مسقط رأسه، ترك وظيفته وانضم إلى الثوار. يقول «الحرب أفضل من تلك الزنزانة»، كاشفا عن ساقيه حيث الندوب تغطيهما، متحدثة عن قصة الضرب والتعذيب الذي لقيه حينما كان مسجونا.

تم إلقاء القبض على ما يربو على 300 «جهادي» سوري واعتقالهم من قبل قوات الأمن التابعة للأسد عند عودتهم من العراق. يتابع أبو شاهوم قائلا «كانت الجماعة التي حاربناها هناك محظورة من قبل النظام. اتهمونا بالتآمر لتدمير سوريا، ولكن لم تكن تلك هي الحقيقة مطلقا. فقد ذهبنا إلى العراق لمساعدة أشقائنا المسلمين لأن الأميركيين كانوا يحتلون بلدهم. أدركنا أن صدام كان ديكتاتورا، لكن الغزو كان أمرا أسوأ». تم إطلاق سراح السواد الأعظم من هؤلاء السجناء حينما بدأت الثورة، مع إعطاء قوات الأمن تعليمات لهم بأن يخبروا أصدقاءهم بأن الأسد سوف يصلح النظام. يضحك أبو شاهوم قائلا «عانينا من هذا النظام على مدى 40 عاما. وأدركنا أنه كان كذبة».

تصل درجة الحرارة إلى 40 درجة في الظهيرة في حي صلاح الدين. وداخل المجمعات السكنية ترتفع نسبة الرطوبة، بحيث يصعب التنفس. يتصبب العرق من وجهي وإلى عيني، بينما أتتبع الثوار أعلى وأسفل بيت السلم المظلم، وأعدو عبر أزقة القناصة وأعبر فتحات الدخول المبتورة. لكننا في شهر رمضان، وعلى مدار الشهر المقبل سيقوم غالبية هؤلاء الرجال بهذا العمل يوميا من دون طعام أو شراب. إنهم يخبرونني بأن المهمة سهلة؛ ولكن لا يمكنني تصديقهم. بعد نصف ساعة فقط أجد نفسي في حاجة ماسة لشرب الماء. يقول أبو شاهوم «جنود الأسد يعلمون أننا صائمون وأننا سوف نفطر معا عند المغرب، وهم يستغلون هذا». خلال شهر رمضان تبدأ أشرس الاشتباكات في حي صلاح الدين وقت الإفطار. بالأمس، قتل اثنان من قادة هؤلاء الثوار وهم يفطرون.

لكن هذه المجموعة غير المعتادة من الرفاق، محمد البالغ من العمر 17 عاما جنبا إلى جنب مع الجهادي المحنك أبو شاهوم، تمضي قدما في جهادها على الرغم من تلك الصعوبات. جميعهم يخبرونني بأن إيمانهم يشجعهم، وأن عامين من الحرب بلا هوادة في حلب قد زاد من قرب الجميع من الإسلام. لكن ينطبق هذا على وجه الخصوص على الشباب الذين يقاتلون مع الثوار. بمجرد انتهاء الحرب في سوريا، ربما، على غرار أبو شاهوم، سوف ينضمون إلى الجهاد في المناطق الأخرى. يقول أبو شاهوم «لقد شهدوا كيف أتى المقاتلون الأجانب إلى هنا لمد يد العون لهم. لذلك، سوف تجد فتيانا سوريين على الخطوط الأمامية الأخرى في المستقبل».

يؤكد أبو شاهوم أن سوريا نوع مختلف من الحرب عن العراق، فهي حرب أشرس وأكثر قذارة.. «هاجم الأميركيون القواعد العسكرية فقط، كانت حربا منظمة. لكن هنا، يستهدف جنود الأسد مناطق لمدنيين». استجاب المزيد لنداء الجهاد هنا بالمثل؛ يقول أبو شاهوم إنه قد قاتل جنبا إلى جنب مع الإسبان والشيشان والبلغاريين على الخط الأمامي، مضيفا «ثمة عدد هائل من المقاتلين الأجانب هنا». وبالطبع هناك الأجانب الذين يقاتلون على الجانب الآخر أيضا. يقول الثوار في حي صلاح الدين إنهم على مدى الأشهر الأربعة الماضية سمعوا ضباطا من النظام يتحدثون باللغة الفارسية أو العربية بلكنة لبنانية.

يقول أبو شاهوم «الجنود الإيرانيون وأعضاء حزب الله محترفون. لا أصدق أن السوريين الذين يقاتلون في صف النظام لديهم قلب لقتل شعب بلدهم. يتعين عليهم أن يأتوا بهؤلاء الأجانب للداخل». قبل شهر كان الثوار يدخلون مصنعا في صلاح الدين، حينما أصبحوا وجها لوجه مع 50 مقاتلا من الحرس الثوري الإيراني، جميعهم يرتدون ملابس لونها أسود مع وجود صور لـ(روح الله الموسوي) الخميني مطبوعة على ظهر قمصانهم. بدأ تبادل لإطلاق النار؛ ولقي 8 ثوار و15 إيرانيا حتفهم. «إنهم محترفون لكنهم ما زالوا بحاجة للحضور والتدريب معي»، يضيف أبو شاهوم وابتسامة ترتسم على وجهه.