محمد عزو حلوب.. الطفل الذي كبر ليخون قريته

كان يتصل ببعض شباب القرية لإقناعهم بالانضمام إليه مع وعود بإغداق المال عليهم

TT

كان محمد عزو حلوب، الذي نشأ وترعرع في قرية «علوك» الواقعة في شمال شرقي سوريا، شابا محترما بكل المقاييس. وقد عرفه أهل القرية منذ نعومة أظفاره، ثم شاهدوه وهو يكبر ليصبح مدرسا بإحدى مدارس القرية، ثم ليتحول في ما بعد إلى مهنة المحاماة. كان محمد رب أسرة في الثلاثين من عمره، وكان يعول ثلاثة أطفال. يقول عبد الرحمن وهو يهز رأسه في حزن «لقد اعتقدنا أنه مهذب ومتحضر». وكان هناك شيء واحد يميزه عن باقي شباب القرية، يضيف عبد الرحمن «كنا نعرف أن والده كان رجلا متشددا في تدينه، لكن لم يخطر ببالنا أبدا أن يسير محمد على خطاه».

ولم يعد محمد يعيش في «علوك» حتى يروي لنا وجهة نظره في تلك الوقائع. لكن المقاتلين مجهولي الهوية الذين يتجمعون حول مائدة معدنية، تظهر عليها رسوم قلوب حب وشعار «وحدات حماية الشعب» الكردية، في ظهيرة مشمسة من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) يقولون إن محمد هو المسؤول عن الهجوم المدمر الذي شنته جماعة «جبهة النصرة» الإسلامية المتشددة ضد قريته قبل شهرين.

لكن عبد الرحمن، وهو رجل ممتلئ الجسم ذو شارب كثيف، تكفل بسرد تفاصيل الواقعة، بينما كان الشبان، الذين معه، يعلقون على تلك التفاصيل. يقول عبد الرحمن والشبان إن محمد لم يبد أبدا أي اهتمام بالسياسة حتى بداية الثورة السورية. وحالما بدأت الثورة أخذ محمد في الحديث عن ازدرائه للنظام وعن ذلك البديل الذي يرى أنه ينبغي أن يحل محل ذلك النظام. يضيف عبد الرحمن «بعد أن اشتعلت الثورة بدأ محمد في إظهار أفكاره الإسلامية المتشددة، معتقدا أن ذلك هو السبيل الوحيد لمواجهة النظام. وترسخ في ذهنه أن الدولة الإسلامية سوف تكون البديل الأمثل لذلك النظام عندما يسقط».

بحلول شهر سبتمبر (أيلول)، كان شبح الدولة الإسلامية يقترب بشدة من قرية «علوك». فعلى بعد كيلومترات قليلة جهة الغرب من «علوك»، كان نصف مدينة «رأس العين» قد وقع تحت سيطرة «جبهة النصرة» بعد هجوم استغرق أياما قليلة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني). وفي الأشهر الأولى من عام 2013، كان وجود «وحدات حماية الشعب» هو الذي منع تقدم الإسلاميين في المناطق الكردية. وتسيطر «وحدات حماية الشعب» على معظم مناطق الشمال في سوريا.

غير أن وجود «وحدات حماية الشعب» في قرية «علوك» كان أكثر تعقيدا من المدن والقرى الأخرى المجاورة التي كانت تتمركز فيها، ويرجع ذلك إلى خصوصية قرية «علوك» العربية التي تقع وسط أراض كردية. وكثير من القرى العربية في تلك المنطقة هي صنيعة نظام حزب البعث في سوريا. ففي سبعينات القرن الماضي منح الرئيس حافظ الأسد، والد الرئيس السوري الحالي بشار الأسد، منازل وقطع أراض في الإقليم الكردي لعائلات عربية من خارج ذلك الإقليم. ويعتقد الكثيرون من سكان الإقليم أن تلك الخطوة كانت تهدف إلى استباق أي محاولة للانفصال من جانب الأكراد، بيد أن قرية «علوك» تمثل حالة مختلفة. يقول أحد سكان القرية «لقد عشت في هذه القرية منذ عام 1958. لقد وُلدت فيها وولد فيها أيضا والدي. نحن أهل هذه الأرض، ولسنا منقولات يستخدمها الدخلاء».

وقد جرى الهجوم بالفعل على إحدى نقاط التفتيش التابعة لـ«وحدات حماية الشعب» المتمركزة خارج القرية قبل الهجوم الذي حدث في سبتمبر (أيلول)، ويعتقد مقاتلو «وحدات حماية الشعب» أن يكون رفاق محمد هم الذين قاموا بذلك الهجوم. يعلق عبد الرحمن على ذلك الهجوم قائلا «لقد كانت لديهم معلومات لوجيستية عن نقطة التفتيش، فقد علموا عدد الأشخاص الذين كانوا يقومون بحراسة تلك النقطة. كما أن بعض أصدقاء محمد يكنون مواقف عدائية ضد وحدات حماية الشعب، وقد صرحوا كثيرا بأنه لا ينبغي أن تكون نقطة التفتيش في ذلك الموقع».

في غضون ذلك، لم يشاهد أحد محمد في قرية «علوك» على مدى عدة أسابيع. وعندما استيقظ سكان القرية على أصوات إطلاق النار في الساعات الأولى من صباح الرابع عشر من سبتمبر (أيلول)، أصيب عبد الرحمن بصدمة كبيرة عندما شاهد محمد بين عناصر «جبهة النصرة» التي شنت الهجوم على القرية. يقول عبد الرحمن «لقد رأيته بأم عيني، ولم أصدق ذلك في بداية الأمر، فقد كان أحد أبناء تلك القرية، وله أصدقاء وأبناء عمومة وأقارب كثيرون هنا».

لقد كان هو نفس الشخص الذي عرفه عبد الرحمن على مدى ثلاثين عاما - طويلا، ممشوق القوام، ذا شعر أسود - لكن كان هناك تغيير واحد في صفاته الجسدية، فقد أطلق لحيته على الطريقة الإسلامية، التي يعلق عليها عبد الرحمن بقوله «كان قد أطلق لحيته، لكنه أزال شاربه. لقد غير من شكله كثيرا عندما انضم لجبهة النصرة».

ولم يعرف أحد على وجه الدقة متى ولماذا قرر محمد الانضمام للإسلاميين. يقول بعض المقاتلين الشباب إنه كان يتصل ببعض شباب القرية، محاولا إقناعهم بالانضمام إليه مع وعود بإغداق المال عليهم إذا ما انضموا إليه بالفعل. وتناهى إلى سمع آخرين أنه كان يعمل في محكمة تطبق الشريعة الإسلامية تديرها «جبهة النصرة» في مدينة «رأس العين». بيد أنه لم يشك أحد في أن محمد هو من قام بتنسيق الهجوم الذي شنته «جبهة النصرة» ضد قرية «علوك».

ويصف عبد الرحمن حالة محمد حينما حانت ساعة الهجوم بأنه «بدا فخور ومتباهيا بنفسه لدرجة كبيرة». وخاطب أهل القرية قائلا «لن يستغرق الأمر وقتا طولا، سوف نقوم بتطهير القرية ونطرد منها وحدات حماية الشعب». وأضاف أن «هناك دبابات قادمة للمعاونة».

ولم يمكث أهل القرية في «علوك» حتى يعرفوا ماذا تعني كلمة «تحرير» على طريقة «جبهة النصرة»، فقد فر معظمهم إلى المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في «رأس العين»، ولم يعد الكثير منهم حتى الآن إلى «علوك». وما زالت الآثار التي خلفها هجوم «جبهة النصرة» في الرابع عشر من سبتمبر (أيلول) باقية شاهدة على ذلك الهجوم.

وفي صوت تملؤه الكراهية، يصف «حسن منير الشهاب»، أحد المدرسين العاملين في مدرسة القرية، كيف أطلق الإسلاميون، لدى دخولهم القرية، قذائف دبابتهم التي اخترقت جدران المدرسة قبل خمسة أيام فقط من بداية العام الدراسي الجديد. ويضيف حسن «كان هناك أكثر من ثلاثمائة مقاتل من جبهة النصرة يحاصرون القرية، دخل نحو ثلاثين منهم المدرسة على ظهر إحدى الدبابات». ويعتقد حسن أنهم كانوا يحاولون الاستيلاء على المبنى حتى يستخدموه كثكنة وقاعدة عسكرية في القرية.

وعندما اندلع القتال، فر حسن هاربا من القرية، وعندما عاد اكتشف أن منزله قد جرى تدميره هو الآخر. ممسكا بيده بعض الصور لعائلته التي أرانا إياها وقد بدت عليها علامات الاحتراق، يصف حسن تدمير منزله بقوله «لقد دخلوا منزلي وقاموا بإحراق صور جدي وأولادي». ويمضي حسن قائلا «يقولون إنه من الخطأ وإثم محرم شرعا أن يقوم احد بتعليق صور البشر على الجدران، وفي المقابل لا يعتبرون ما يقومون به من قتل وحرق من الآثام المحرمة شرعا».

ويتشارك حسن وعبد الرحمن في وجهة النظر القائلة بأن الإسلاميين الذين هاجموا قريتهم ليسوا سوريين، بل أجانب. يقول حسن «لقد كانوا مقاتلين من ماليزيا وأفغانستان وباكستان. قالوا إنهم جاءوا هنا ليعلمونا أصول ديننا. لكني أعتقد أنهم ليست لهم علاقة ببلدنا، لقد جاءوا فقط لتدميرها».

استغرق الهجوم على «علوك» خمسة عشر يوما. وبحلول الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، استطاعت «وحدات حماية الشعب» طرد الإسلاميين من القرية، وأعاد حسن فتح المدرسة. يقول حسن «حاولنا إصلاح بعض الفصول حتى يتمكن الطلبة من استئناف الدراسة. وقد أتلف الإسلاميون بعض كتب المدرسة أثناء الهجوم أيضا. وقد عاد نحو نصف طلبة المدرسة إلى أحد المباني حيث تخترق الرياح الثقوب التي أحدثتها قذائف الدبابات وتصدر صفيرا شديدا.

في غضون ذلك، راح الأطفال يمرحون في شوارع «علوك» ويلعبون بطلقات الخرطوش المتناثرة في الطرقات والتي جرى استخدامها أثناء الهجوم، لتبقى تلك الطلقات راسخة في أذهانهم وشاهدة على معركة شرسة جرت على أرض قريتهم.

ويبدو سكان قرية علوك الآن مجمعين على دعمهم لوجود «وحدات حماية الشعب» في قريتهم. ويخبرنا أحد سكان القرية، الذي رفض ذكر اسمه، عن الطريقة التي أحرق بها المقاتلون الإسلاميون منزله انتقاما منه بعد علمهم بأنه ساعد اثنين من مقاتلي «وحدات حماية الشعب» المصابين في الوصول إلى المستشفى وقد تخفوا في ملابس نسائية. يقول هذا الرجل «منذ البداية تجمعنا علاقة جيدة بوحدات حماية الشعب، والآن أنا أثق بهم أكثر من ثقتي بشقيقي، فهم يواجهون الموت من أجل حمايتنا، وبينما نخلد نحن للنوم، يقومون هم بحماية قريتنا».

ومنذ هجوم «جبهة النصرة، انضم كثير من رجال القرية مثل عبد الرحمن ورفاقه إلى الميليشيات الكردية للقتال معهم. يقول عبد الرحمن «انضم الكثير من أهل القرية إلى وحدات حماية الشعب لأننا وجدنا أن ذلك هو السبيل الوحيد لنبقى آمنين». ويرى أهل قرية «علوك» أن الوضع الحالي ليس حربا بين الأكراد والعرب أو حتى صراعا من أجل أو ضد النظام. هم يرون أنه ببساطة صراع من أجل منازلهم وعائلاتهم وأمنهم، وهذا الأخير لا يوفره لهم الوقت الحاضر إلا «وحدات حماية الشعب».

وقد اختفى محمد مع عائلته من قرية علوك، وجرى اتهام أصدقائه بمساعدة «جبهة النصرة» في هجومهم على نقطة التفتيش وجرى القبض علهم وإيداعهم سجون «وحدات حماية الشعب». وعندما طلبنا من المقاتلين إن كان باستطاعتنا مقابلتهم، كان ردهم سريعا وحاسما، قالوا لنا «مستحيل». ولم تكن هناك محاكمات أو اعتراف بالذنب، لكن هنا في قرية «علوك» شُوهت سمعة محمد عزو حلوب وأصبح ذلك أمرا حتميا مثل مصيره المحتوم الذي سيلقاه إذا حدث وعاد للقرية. يقول عبد الرحمن «إذا عاد سوف نذبحه».