مظاهر «الحياة الطبيعية» في مخيم الزعتري تخفي الرعب في نفوس سكانه

أبناء اللاجئين يصرخون كلما رأوا طائرة خوفا من القصف

أطفال من بين اللاجئين السوريين في مخيم الزعتري (هانا لوسيندا سميث)
TT

المرأة العجوز تشعر بهلع يمنعها من أن تفصح عن اسمها، لذا ستعرف باسم وردة. تجفف دموعها، وتمر بأصبعها على عنقها معبرة عن خوفها مما سيحدث لأهلها، الذين تركتهم وراءها في سوريا، على يد النظام إذا نشر اسمها في وسائل الإعلام. خوف وردة له ما يبرره، لأن أخاها قد مات بهذه الطريقة مع عدد كبير من الآخرين في قرية طفس التي هربت منها. تقيم بخيمة صغيرة في مخيم الزعتري للاجئين الذي يقع على بعد 15 كيلومترا داخل الحدود الأردنية. تروي قصتها فتقول: «في الحي الذي كنت أقطن به، لم يبق سوى عشرة منازل. لقد أتى الشبيحة وكانوا يستولون على كل ما يعجبهم. وكان يمتلك أخي الكثير من المال، فاستولوا عليه ثم نحروا عنقه. ومزقوا شهادات أفراد الأسرة، وفي النهاية أحرقوا المنزل وجثة أخي بداخله. وقبل أن يغادروا كتبوا على الجدران الباقية من المنزل، إما الأسد أو الحريق والدمار»، في إشارة إلى الرئيس السوري بشار الأسد. هربت وردة من جنوب قرية طفس، وعبرت الحدود الأردنية - السورية مصطحبة معها ابنتها، لكنها لم تكن معها في المخيم، حيث رفض جنود الأسد عبور ابنها البالغ من العمر خمسة عشر عاما، قائلين إن الرجال غير مسموح لهم بمغادرة البلاد، واختارت الفتاة أن تظل معه. واغرورقت عيون وردة بالدموع مرة أخرى، وقالت: «لم أر ابنتي منذ أربعة أشهر».

وعلى هذا الجانب من الحدود، أصبحت وردة مجرد رقم ضمن عشرات الآلاف من السوريين في مخيم الزعتري ممن لا تختلف قصصهم كثيرا عن قصتها، فهي قصص رعب وهلع ودمار. توجد أسر في كل أنحاء المخيم من حمص ودرعا وريف دمشق، فوجدت قصصهم شبيهة بقصة وردة. إنهم يتحدثون عن نظام يقصفهم يوميا ليلا ونهارا، ويقوم رجاله بعدها بمداهمة واقتحام المنازل. ولم يكن يجرؤ حتى الذين يصرون على البقاء في منازلهم رغم القصف، على الخروج بمجرد ظهور الشبيحة - القوات الموالية للنظام السوري. وتقيم في خيمة، تبلغ مساحتها 3 أمتار مربعة وتحمل شعار المفوضية العليا لشؤون اللاجئين ذا اللون الأزرق، مع ابن أخيها أبو عمر وزوجته رولا وأبنائهم الثلاثة. وبينما تتحدث وهي تحتسي الشاي، يلعب الابن الأكبر في قطعة من حشية فراش قديم. ويقول أبو عمر: «إنه يلعب بها كأنها طائرة». السماء شاسعة في خيال كل الأطفال في مخيم الزعتري. تقول رولا: «لقد جن جنون الأطفال عندما بدأ القصف. والآن يصرخون كلما رأوا طائرة. وبدأ ابننا الأصغر يبلل نفسه كلما حدث هذا». وقال أبو عمر إنه لولا أبناؤه، لمكث هو وزوجته في منزلهم بسوريا. وهذا سبب يتكرر بين الكثير من السوريين الذين اختاروا اللجوء إلى المخيم، فالأطفال أصيبوا بالرعب والصدمة، مما دفع آباءهم إلى الهروب. ويقول أبو عمر: «لقد باتت القذائف تقترب إلينا إلى أن دمرت منزلنا. لقد غادرنا البلاد خالي الوفاض، لا نحمل سوى حقيبة صغيرة تحتوي على بعض الأشياء الخاصة بأطفالنا».

ولقد أصبح المخيم كابوسا. الأطفال منتشرون في «الزعتري»، حيث يجلس الأطفال الصغار داخل المخيم مفتوحي العيون، بينما يتسم الأطفال الأكبر سنا بالمشاغبة ويلعبون في الشوارع. لديهم الكثير من الأصدقاء هنا، لكن لا يوجد الكثير مما يمكن فعله من دون ألعاب. لذا، يلعبون بالقداحات أو يقفزون فوق الشاحنات. ويخشى أبو عمر ورولا عليهم كثيرا. وتقول رولا: «إنهم يكونون صداقات، لكن ليس بطريقة آمنة. لا نريد أن يتعلموا السلوك السيئ».

يقول خليل، معلم من درعا يعمل حاليا في المدرسة الوحيدة الموجودة في المخيم، إنه من الصعب تشجيع الأطفال وتحفيزهم على التعليم، فقد اختفى كل المرح في عملية التعليم. ويشير إلى أنهم يتعلمون اللغة العربية والرياضيات، لكن لا توجد أي مواد يمكن استخدامها في تعلم أي مادة أخرى، سواء كانت فنونا أو موسيقى أو ألعابا رياضية. ويذكر أن في سوريا تم إغلاق عدد كبير من المدارس على مدى العامين الماضيين وحولها النظام إلى سجون.

في النظام التراتبي بمخيم الزعتري، تشغل وردة وعائلتها مرتبة متقدمة، فأكثر العائلات التي التقتهم «الشرق الأوسط» يتكدسون في الخيام، حيث تضم الخيمة الواحدة ما يزيد على العشرين. مع ذلك، لم يمنحهم ما يتمتعون به من راحة نسبية أي امتيازات عندما هطلت الأمطار والثلوج منذ شهرين. ويعد الطقس الذي شهدته المنطقة هو الأسوأ منذ سنوات. أغرقت الأمطار الخيام، ونامت وردة وعائلتها على حشيات مبللة بالماء لمدة عشرة أيام. وقالت: «وصل الماء إلى داخل الخيمة، لذا فرشنا أغطية تحتها. وحفرنا نفقا لطرد المياه من الخيمة، لكن استمر الماء في دخول الخيمة. وطلبنا من الأمم المتحدة خيمة جديدة، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك، وأصابتنا جميعا الأنفلونزا».

يقع مخيم الزعتري في سهل صحراوي، مما يعني أنه يشهد موسمين؛ موسم الأمطار وموسم الغبار والعواصف الترابية. وإذ إن الأمطار قد انتهت، فالموسم المقبل هو موسم العواصف الترابية. وعند السفر على الطريق المؤدي إلى المخيم، يجب الانحراف لتفادي شاحنات نقل ضخمة تنقل الأحجار من أجل مواجهة التراب. مع ذلك، لا تكفي هذه الكمية، لأنه بمجرد أن يتم وضع الحصى والأحجار على الطريق، يظهر طريق آخر.

ويتزايد عدد سكان مخيم الزعتري زيادة مطردة، حيث يصل خمسة آلاف وافد جديد إلى المخيم كل ليلة، ويضاف إلى كل من في المخيم والعاملين التابعين للأمم المتحدة أعداد هائلة أخرى. انتظرت وردة وعائلتها أسبوعين حتى تسلمت خيمة خاصة بها، وإلى أن حدث ذلك كانت تنام على الأرض في إحدى الخيام التي توجد في مدخل المخيم.

يوضح فادي، الناشط المعارض السوري الذي عادة ما يصطحب الصحافيين إلى المخيم، أن هناك سبعة من فريق عمل الأمم المتحدة في مخيم الزعتري لإجراء المقابلات اللازمة مع آلاف اللاجئين الذين يصلون إلى هناك. «تشكل المقابلات أهمية، ويجب إجراؤها على الوجه الملائم، بحيث يمكننا جمع أدلة عما يحدث داخل سوريا»، تقل إمدادات الطعام والدواء والأغطية - التي يوجد نقص فيها بالأساس - بين سكان المخيم الذين يزداد عددهم. وقد اعتادت الأسر هنا أن تتناول وجبتين مطهيتين يوميا، لكن الآن يتم تسليمهم طعاما معلبا لطهيه داخل خيامهم. تخبرني وردة بأن لديهم المؤن الأساسية - الأرز وزيت الزيتون والشاي - ولكنهم يفتقرون إلى الفواكه أو الخضراوات الطازجة.

وفي الطريق المؤدي إلى الزعتري من عمان، يمر عدد لا حصر له من الشاحنات المحملة بالمساعدات. «عادة ما يبدي الأردنيون تعاطفا شديدا مع اللاجئين السوريين»، هذا ما يقوله فادي: «غير أنه ما زال هناك نقص في الطعام أو الأغطية التي يحتاجها المخيم. وبمجرد وقوف شاحنة مساعدات داخل المخيم، نجد أنه يكون محاطا على الفور بعدد يتراوح ما بين 500 إلى 1000 شخص، وتندلع أعمال شغب. يتمثل السبيل الوحيد المتاح لوقف هذا في قيام المتطوعين بالتنقل لمخيم آخر لتسليم المعونات».

غير أنه في ظل قسوة الحياة في مخيم الزعتري، حيث يحيا الناس، لكن حياتهم تكون معلقة، ثمة بعض مظاهر الحياة الطبيعية. يتعامل الناس المقيمون هنا مع مشكلة ضخامة المخيم عن طريق ترتيب المخيمات المتماثلة في صورة شوارع، ثم تقسيم تلك الشوارع إلى ميادين أو ساحات. يعرف كل شارع برقمه؛ يبلغ إجمالي عدد الشوارع سبعة عشر شارعا في المجمل، ويوضح لنا أبو عمر أن الوافدين الجدد عادة ما يضلون طريقهم. ويقول: «في حالة حدوث ذلك، يذهبون إلى المسجد، ويبعث إمام المسجد برسالة لأسرتهم للحضور واصطحابهم».

وفي مركز المخيم، تصطف متاجر متنقلة في الشارع الرئيسي المزدحم، تبيع كافة الأشياء التي لا تستطيع الأمم المتحدة والجمعيات الخيرية التزويد بها. هناك مقاه وبائعو فواكه ومتاجر هواتف جوالة. وفي كشك مساحته ستة أقدام مربعة مبن من الحديد المموج، يجلس بضياء، وهو حلاق من درعا أتى إلى المخيم قبل شهر بصحبة زوجته وابنته التي يبلغ عمرها شهرين. وقد أقام صالون حلاقة ويقوم بخدمة ثالث زبون له. يقول: «هذه حياتي. لدي صالون حلاقة في درعا، والآن أصبح لدي واحد في مخيم الزعتري». لقد دفع خمسة آلاف ليرة سورية مقابل المبنى، ويتقاضى 150 ليرة مقابل قص الشعر وحلاقة الذقن. ويقول إنها وظيفة جيدة.

لكن خلف هذا المظهر السطحي من الحياة الطبيعية، يكمن غطاء من الرعب. كل شخص أتحدث معه يتحدث عن أنصار الأسد، وحتى الشبيحة، الذين يأتون إلى المخيم. يقول أبو عمر: «سمعنا أن رجال الأسد أتوا إلى هنا الشهر الماضي وحاولوا تسميم أحد صهاريج المياه». ويضيف: «ألقى ضباط الشرطة القبض عليهم وأعادوهم إلى سوريا. وفي مخيم آخر، أضرم الشبيحة النيران في خيمة، بداخلها كل أفراد الأسرة. نحن نعيش في خوف من أن يحدث لنا كل ذلك».

وتعتبر هذه الشائعات بمثابة أسلحة نفسية. لا يرغب كثير من البالغين في أن يتم التقاط صور لهم، خشية من تبعات أن يراهم النظام. توضح رولا: «الأسد ما زال موجودا هنا». لكنها في حالة من الفزع أيضا من احتمال حدوث هجوم جوي على المخيم. تحدثنا قائلة: «الأسد مجنون. ونحن قريبون جدا من الحدود، إلى حد أنه بإمكانه قصف المخيم في أي وقت».

تستند مخاوف رولا إلى حقيقة ملموسة. يشير سائق سيارة أجرة إلى النقطة التي سقطت عندها صواريخ من داخل سوريا قبل أسبوعين. يغلق الجيش الأردني الطرق القليلة الأولى، لكن بعد البحث لنصف ساعة يتم العثور على شريط أصفر يحمل تحذيرات من حدوث تفجيرات، وذلك على بعد كيلومتر واحد من المخيم. في حالة هبوط صاروخ داخل حدوده، سيحدث دمارا كارثيا.

إن سكان مخيم الزعتري يعيشون نوعا آخر من عدم الأمان. إن شعور الرعب الذي تبثه الغارات الجوية والشبيحة ما زال يلقي بظلاله، ويمكن أن تتبدد الحماية المحدودة التي توفرها الخيام والأسلاك الشائكة بسهولة تماما وبشكل معتاد.

تلقي ضغوط مخيم الزعتري بوطأتها بشكل هائل على النساء. كثيرات يأتين هنا بمفردهن، إذ يظل أزواجهن داخل سوريا، يقاتلون مع الجيش السوري الحر أو يحمون أي منزل تركوه. ترملت ابنة عم رولا بأبشع الصور - عاد زوجها إلى سوريا ليأتي لها بالأدوية التي يستحيل إيجادها في المخيم. تقول: «غادر قبل أسبوعين، ولم يسمع أحد به منذ ذلك الحين. نعلم أنه ميت».

وليس ثمة مساحة للنساء الوحيدات. الجميع هنا مختلطون: الأسر والسيدات العزباوات والرجال العزاب. تقول رولا: «إذا لم يكن لدى سيدة زوج، لا تكون آمنة في المخيم. وإذا أردت الذهاب إلى الحمام ليلا، لا يمكنني الذهاب من دون زوجي. فالمكان ليس آمنا».

توضح وردة أن الظروف في مخيم الزعتري أسوأ منها في سوريا. تقول: «في سوريا، نقتل جراء التفجيرات، لكن في الزعتري، نموت من البرد. الحمامات والمطابخ مكتظة وغير نظيفة، ولا توجد مراعاة للخصوصية أو الكرامة».

ومن ثم، فرغم كل شيء هربت منه في طفس، تتمثل أمنية وردة الوحيدة في أن تعود أدراجها إلى هناك. «لم تعد هناك منازل، وأصبحت المزارع لا تنتج أي شيء. لكن كل يوم، أحلم بالعودة إلى الوطن. إنني متأهبة للموت».