وباء القرن الثامن عشر الذي عرف بـ«حبة حلب» يعود إلى المدينة بسبب الحرب

تحويل مدرسة سابقة إلى عيادة لعلاج الحالات المتزايدة من المصابين بمرض الليشمانيا

«عيادة» غير رسمية لتلقي اللقاح صورة خاصة بـ («الشرق الأوسط»)
TT

حلب المختنقة المضطربة قبل عامين، كانت هذه المدينة هي العاصمة التجارية لسوريا، الآن أصبحت مدينة من القرون الوسطى بفعل الحرب. منذ الصيف الماضي لم تعد هناك طاقة كهربائية في الأحياء التي يسيطر عليها الجيش السوري الحر، ومع غروب الشمس في الساعة السادسة تغرق الشوارع في لون أسود حبري. يقوم بائعو الشوارع بالتجارة السريعة في مولدات الديزل، ومع حلول الظلام يهرع الناس إلى بيوتهم لتشغيلها، ويصبح الهواء معبئا برائحة الوقود. لا يجازف أحد بالسير في الشوارع بعد الغروب، ومن ثم لا تظهر فيها سوى القطط الضالة، وتكون أعينها هي منافذ الضوء الوحيدة في الممرات الكئيبة الخطرة.

لقد أصبح كل من زجاجات المياه والوقود من السلع القيمة باهظة الثمن. وقد صنعت الثورة الكثير من القادة العسكريين والمجرمين والانتهازيين أصحاب النفوذ والثروة، لكنهم يزدادون ثراء على حساب معاناة الضعفاء والمرضى ومن لا يملكون وسيلة للهرب من المدينة المتعفنة.

في مواجهة منزل تم قصفه في شارع جانبي، تم تحويل مدرسة سابقة إلى عيادة لعلاج الحالات المتزايدة من المصابين بمرض الليشمانيا، وهو مرض جلدي ينتشر عن طريق الفطريات. وفي القرن الثامن عشر انتشر هذا المرض كالوباء في المدينة، وأطلق عليه الأطباء الذين كانوا أول من اكتشفوه اسم «حبة حلب». الآن، بسبب أكوام القمامة المبعثرة في الشوارع، عاد المرض للانتشار مرة أخرى بصورة لا يمكن السيطرة عليها». يقول حسين: «في بعض المناطق، نجد أن ثمانية من بين كل عشرة أفراد حاملون للعدوى».

قبل اندلاع الحرب، كان حسين يعمل ممثلا. وقد درس أعمال الكاتب المسرحي بريخت وأنتج أفلاما قصيرة وقدم مسرحيات لاذعة عن موضوعات خطيرة. يقول: «حينما بدأ النظام يقتل الشعب، ألفت مسرحية عن هذا الموضوع. وفي نهاية كل عرض نخبر الجمهور بعدد من قتلوا في المظاهرات، وفي كل يوم يزيد هذا العدد عن اليوم السابق. كنا نؤدي العروض في المنازل، ولم يزد عدد مشاهدينا مطلقا عن عشرين شخصا، بحيث لا نلفت انتباه قوات الأمن».

غير أن حلب اليوم لا توجد بها سوى مساحة محدودة لإقامة العروض المسرحية. الناس خائرو القوى تماما من كدحهم لكسب قوت يومهم. ومن ثم يتطوع حسين الآن بالعيادة الميدانية، حيث يتجه إلى مناطق مصابة بالعدوى في المدينة لالتقاط المرضى وجلبهم لأخذ الحقن اللازمة. يقول: «في كل يوم تكون هناك مناطق جديدة يتحتم الذهاب إليها». ويضيف: «في دير الزور كانت هناك حالتان أو ثلاث حالات إصابة بالكوليرا، وأعتقد أنه قريبا ستظهر حالات مماثلة في حلب».

يبدأ مرض الليشمانيا في صورة قرحة. وفي حالة تركه دون علاج ينمو وينتشر عبر أجزاء جسم المضيف. وفي العيادة أتت أم علي مصطحبة ابنها وابنتيها لأخذ الحقن. كانوا جميعا حاملين للمرض ويجب أن يأتوا إلى هنا كل ثلاثة أيام لتلقي العلاج. تنظر صغرى بناتها بينما تغرس الممرضة الإبرة في وجه أمها، ثم لا تلبث عيناها أن تغرورقا بالدموع لدى إدراكها أن دورها هو القادم. لكن من دون أخذ الحقن، مع كونها مؤلمة، سوف تتفاقم حالة التقرحات التي تعاني منها سوءا.

يعتبر الدكتور محمود (وهو اسمه المستعار) هو الطبيب الوحيد في العيادة. يقول: «في البداية كنا نعالج كل الأمراض هنا. ولكن مع زيادة انتشار مرض الليشمانيا قررنا أن علينا التركيز عليه. اليوم، نتابع حالات يتراوح عددها ما بين ثلاثمائة وأربعمائة مريض يوميا».

ومع استحواذ الجيش السوري الحر على مستشفيات في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في حلب، تعقبهم الدكتور محمود وقام بجمع المتوفر لديهم من الغلوكانتيم، وهو الدواء الشائع استخدامه لعلاج المرض. لكن قبل سبعة أسابيع، نفد المخزون لديه ويكافح من أجل توفير أموال لشراء المزيد. يصل سعر كل أمبولة إلى 200 ليرة، ويجب جلبها من الخارج إلى حلب. والأمر الذي يضاعف من حجم المشكلات بالعيادة هو أنه لا يمكن علاج المرضى كافة باستخدام الغلوكانتيم. ويضيف: «إنه ليس آمنا بالنسبة للنساء الحوامل نظرا لأنه قد يسبب الإصابة بخفقان القلب». ويواصل قائلا: «نحن بحاجة لعلاجهن باستخدام النيتروجين السائل من أجل تجميد القرح، لكننا لا نملك مخزونا منه على الإطلاق». وفي تحول آخر قاسٍ، عادة ما تنشأ لدى المصابين بالليشمانيا مقاومة للعلاج. وفي مدن أخرى، يتجه الأطباء إلى علاج مختلف، ولكن في حلب لا توجد خيارات ثانية.

من ثم يركز محمود وفريقه جهودهم على منع انتشار المرض بصورة أكبر. ومع سفر حسين للإتيان بالأسر المصابة بالعدوى، يصطحب معه حاسبه المحمول وعرض «باور بوينت» ويبين لهم كيف يمكن لذويهم غير المصابين بالعدوى اتقاء الإصابة بالمرض. يقول: «يبحث الأطفال عن عملات معدنية في أكوام القمامة. إنها وسيلة لكسب بعض المال، لكن علينا أن نخبرهم أن لا يفعلوا ذلك، فتلك هي الطريقة التي يلتقطون العدوى من خلالها».

والآن، على حد قول الدكتور محمود، أتينا إلى هذا الوقت من العام الذي بات من الأهمية بمكان فيه الدخول في مواجهة مباشرة مع المرض. في الشوارع المواجهة للعيادة بدأت عربة قمامة واحدة في جمع أكوام المخلفات. يقول: «فصل الربيع هو الموسم الذي يفقس فيه البيض، من ثم فقبل حدوث ذلك علينا إزالة القمامة من الشوارع. إذا فعلنا ذلك يمكننا أن نمنع انتشار المرض على نطاق أوسع».