معارض معتقل في سجن النظام في الرقة توسط مع «الجيش الحر» لإطلاق سجانيه

اشتهر بعد أن وقف مكان تمثال حافظ الأسد > قال لـ «الشرق الأوسط» : باتت الثورة أكثر تعقيدا

محمد يرفع يده ويقف مكان تمثال للرئيس السوري السابق حافظ الأسد بعد سقوط الرقة (رويترز)
TT

تساءل محمد: «لا يزال هناك الكثير من الأشياء التي لا أفهمها، لماذا ذهبت إلى هناك؟ وكيف خرجت؟»، وتوقف ليشعل سيجارة أخرى ويلتقط أنفاسه قبل استئناف الأسئلة. يعلم محمد أنه كان من المفترض أن يكون في عداد الأموات، لكن ذلك لم يحدث، ولا يزال يجاهد لفهم سبب بقائه على قيد الحياة.

أثناء اجتياح الجيش السوري الحر لمدينة الرقة بداية هذا الشهر، سمع محمد تفاصيل المعركة وهي تدور - القصف والقتال والانسحاب الكامل لجيش النظام السوري - من نافذة زنزانته في السجن العسكري، حيث كان أحد نزلاء السجن مع تسعة آخرين والقتال يحتدم من حولهم. كانوا يعيشون على كسرة من الخبز لكل منهم وزجاجتين من المياه يتقاسمونها بينهم. وقال: «كنت أقضي الوقت في التفكير في الطريقة التي سأموت بها. كنت أقول لنفسي هل سيقصف الجيش الحر المبنى؟ أم هل سيقصف بالطائرات؟ أم هل سيقتلني ضباط السجن في النهاية؟».

كانت تلك اللحظة التي اعتقد فيها محمد أن حظه نفد، فكانت تلك هي المرة الثالثة التي تعتقله فيها قوات النظام لكنه في كل مرة كان يفرج عنه. لكن اسمه الآن كان على قوائم المطلوبين في دمشق، ودير الزور وحلب، فجهاز الحاسوب المحمول الخاص به مليء بصور قادة الجيش السوري الحر وأفلام فيديو لمظاهرات المعارضة، وفي جيبه أوراق هويته التي أصدرتها جبهة النصرة لتأمين تحركاته.

وأوضح محمد: «عندما اعتقلني جنود النظام أصبت بالصدمة لأنني كنت متأكدا أنهم سيقتلونني، فعندما يعلمون هويتي، فسوف يقتلونني».

بدأت رحلة محمد إلى هذه الزنزانة قبل خمسة أشهر، في حلب حيث كان يعمل ناشطا إعلاميا في صفوف المعارضة، يقوم بتصوير المظاهرات عندما بدأ النظام في قصف المنطقة، ليقتل اثنين وعشرين شخصا وتصيبه شظية استقرت في ذراعه اليسرى. ظلت الشظية في ذراعه لثلاثة أشهر إلى أن تمكن من السفر إلى الأردن حيث أزالها جراح نصحه بمغادرة سوريا.

تمكن محمد بمساعدة صديق في لبنان على وضع اسمه ضمن قائمة السوريين المصابين الذين سيتم نقلهم إلى باريس، وفور علمه باقتراب موعد سفره، قرر محمد التوجه إلى الرقة لتوديع عائلته، الذين قال إنهم «لم يعلموا حتى أنني أصبت».

وللدخول إلى المدينة الخاضعة لسيطرة قوات النظام قيل له إن عليه أن يسافر عبر دراجة نارية، ثم السير بمحاذاة خط السكك الحديدة ثم القفز على سور لتجاوز نقطة التفتيش الحكومية. كان ذلك مسارا آمنا يستخدمه في العادة جنود الجيش السوري الحر، لكنه فشل هذه المرة. فبعد تمكنه من تجاوز السور شاهده أحد جنود النظام، ويروي محمد «قال لي الجندي توقف، من أنت؟، لم أتمكن من الإجابة. كان ذلك عملا جنونيا لكني واحد من الذين دائما يكون لديهم خطة جاهزة. فحتى إذا ما ذهبت إلى المتجر لشراء السجائر فهناك خطة. لكني ذهبت إلى الرقة وألقي القبض علي».

اصطحب جندي النظام محمد إلى القاعدة لاستجوابه، وفي الطريق سلبه الجندي معطفه وحذائه، ويقول: «في البداية التقيت شخصا يدعى (أبو يوسف). كان ضابطا ذكيا، تحدث معي لثلاثين دقيقة عن الصواب والخطأ وقال لي: أنت مخطئ الثورة خاطئة، أنت تساعد أميركا وإسرائيل على تدمير بلدك»، وقلت له: «أنت محق ونحن مخطئون، لكننا لا نمتلك عقليتك لنفهم الأشياء كما تفهمها أنت»، كانت تلك هي الطريقة التي أتعامل بها مع شخص مثله.

بعد المقابلة وضع محمد في الزنزانة، لكنه لم يكن يعلم مكانه حتى إن سأل السجناء الآخرين، وعندما أخبروه أنهم في سجن تابع للقوات الجوية، لم يشعر بأي شيء، فيقول: «كنت أعلم أنهم سيقتلونني، وأن الخروج من هنا محال. لذا استسلمت للقدر وقلت لا توجد مشكلة، كل شيء على ما يرام». وظل في زنزانته ليومين.

بعد السجن جاء الضرب الذي علم محمد أنه سيواجهه منذ اللحظة التي أوقف فيها في الظلام خارج الرقة. فقد فحص أبو يوسف حاسبه المحمول وتحدث مع المخابرات في مناطق أخرى من سوريا وعلم مدى تورط محمد في الثورة. وعلى مدى ثلاثة أيام ضرب محمد بأسلاك الكهرباء، وعندما طالب سجانيه بعدم ضربه على مكان الجراحة قاموا بصعقه بالكهرباء بدلا من ذلك.

بعد أربعة أيام التقاه أبو يوسف مرة أخرى وسأله عدة أسئلة - كان بعضها غبي والآخر سخيف وبعضها ذكي، كلها تتعلق بحياة محمد ابن الرابعة والعشرين.

استمرت عملية الأسئلة لأربع ساعات ثم بدأ الضرب مرة أخرى. وقال: «كنت أتمنى الموت حتى أستريح، وبعد ثلاث ساعات ونصف الساعة أغشي علي. وعندما جاءوا ليصطحبوني من زنزانتي مرة أخرى في اليوم التالي، خرجت ارتجف لأنني كنت خائفا للغاية».

استمر الضرب والاستجواب لمدة يومين آخرين بنمط أقر محمد بأنه قد يستمر إلى أن توافيه المنية. لكن على حين غرة، انقلبت الأمور رأسا على عقب. فقد بدأ يسمع أصوات وإطلاق نار وقذائف تسقط خارج السجن. يحكي قائلا: «حضر سجين جديد وسألناه عما يحدث بالخارج. فأجاب بأن ضباط الجيش السوري الحر هاجموا كل نقاط التفتيش التابعة للنظام وتمكنوا الآن من إحكام قبضتهم عليها بأكملها. حينما بدأت المعركة في اليوم التالي، قام ضابط السجن بفتح الباب وقدم لنا الماء والخبز، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي نرى فيها أحدا من مسؤولي السجن على مدى خمسة أيام».

لم يكن بوسع محمد وزملاء زنزانته المحتجزين سوى محاولة تفسير أصوات المعركة الدائرة خارج السجن لتخمين ما يحدث. إنهم لم يدركوا أن سبعة آلاف عنصر تابع للجيش السوري الحر قد طوقت المدينة وأن ذخيرة قوات النظام بدأت في النفاد، إلى أن سمعوا ضابطا يجري اتصالا بقائد قوات جيش النظام في دير الزور، التي تقع على بعد 200 كيلومتر شرقا. وفي أول إشارة تنم عن أن النظام بدأ يفقد سيطرته على المدينة، سأل الضابط عما إذا كان بإمكانهم استغلال السجناء في التفاوض على خروج آمن من الرقة.

يقول محمد: «بعدها، حضر إلينا أبو يوسف مخفيا إحساسه بالخيبة وخاطبنا قائلا: مرحبا، كيف حالكم؟ نأسف بشدة على أننا لم نلتفت إليكم طيلة الخمسة أيام الماضية ولم نأت لكم بأي طعام أو ماء». وأخبر الضابط السجناء بأنه يرغب في تسليمهم إلى الجيش السوري الحر، وسأل عمن تربطهم علاقات بقادته. يقول محمد: «من قبل، كنا جميعا نزعم أننا لا تربطنا أي صلة بهم، لكن الآن، الجميع يقول: نعم نعرفهم، أعطونا هواتفنا». تمكن سجين من الاتصال بأحد قادة الثوار، واستمرت المفاوضات بين النظام والجيش السوري الحر على مدار خمس ساعات. يقول محمد: «كانت مسألة حياة أو موت لأنه لو رفض الجيش السوري الحر بالنفي، لكانوا قتلونا».

لكن بعدها، اختفى الضباط، وأغلقوا الأبواب خلفهم. وصل مقاتلو الجيش السوري الحر إلى السجن، ومع عدم وجود أي خيارات أخرى متاحة أمام السجناء، لاذوا بالفرار. وأوضح: «سمعنا صيحة مقاتلي الجيش السوري الحر الله أكبر وهم متجهون صوب المبنى، وخارج المبنى، كان هناك تبادل لإطلاق النار ومناوشات. وبعدها، أدركنا أننا أصبحنا طلقاء». وبدأ محمد، الذي كان حافيا وتحيط به أصوات إطلاق النار الاحتفالية، يجري متجها إلى منزل والديه، مجتازا مدينة لم يكن ليتخيلها من قبل قط. يقول محمد: «ظننت أنه من المستحيل أن يسقط هذا المكان، الذي كنت فيه، لأن الجيش يتمتع بقوة لا تقهر. كانت هناك غرف مليئة بالمدفعية في ذلك السجن. وكانت هناك طائرات (ميغ) تحلق في سماء الرقة. لكن بمجرد خروجي، عدلت عن أفكاري، نظرا لأنه كان من الواضح أنه لم تعد هناك أي آثار متبقية للنظام».

إنه يعلم أن هروبه جاء كضربة حظ، لكنه يكافح من أجل استلهام الشعور بالراحة منه. يقول محمد، المقيم حاليا في تركيا، إنه لا يعلم ما الذي سيفعله بعد ذلك؛ إذ إنه قد فقد ساعات التغطية والكاميرا خاصته، ويقول أيضا إنه قد فقد إيمانه بالثورة.

إن المعارضة العسكرية ممزقة، ولا يبدو أن بمقدور المعارضة السياسية فعل أي شيء لمساعدة من يموتون داخل الدولة أو في مخيمات اللاجئين خارجها. يقول محمد: «أعضاء المجلس الوطني السوري يجلسون في فنادق ومطاعم في إسطنبول، إذن، ما الدافع الذي قد يجعلهم يرغبون في انتهاء الثورة؟ كذلك، فإن السواد الأعظم من مقاتلي الجيش السوري الحر في الشوارع، ولا يتمركزون عند الخط الأمامي للمعركة أو يمدون يد العون للناس. إن عليهم أن يحاربوا النظام بأسلوب ذكي، لا أن يبقوا في الشوارع ويدعوا النظام يقصفهم. كانت هذه الثورة معقدة في مراحلها الأولى، لكنني متأكد الآن أنها باتت أكثر تعقيدا».