دكان خفي في أنطاكية يزود ثوار سوريا بالملابس والمعدات العسكرية

لافتة «ممنوع دخول الشبيحة» تستقبل الزائر

أم عمر وهي تخيط إحدى بدلات الجيش السوري الحر (خاص «الشرق الأوسط»)
TT

يسهل على العين أن تخطئ متجر محمد، فالمكان مخفي بين متاجر الحلي والملابس في قلب سوق أنطاكية القديم، ومدخله الذي يبلغ اتساع عرضه مترا مغطى بالبضائع التي تمتزج بالظلال خلفها. تتمايل سراويل القتال ذات اللون العسكري وسترات الذخيرة المموهة خلسة على مشاجب الملابس، بجوار الملابس ذات الألوان الصارخة ومتاجر الذهب المجاورة.

بعد ستة أمتار من هذا الظلام يجلس محمد على مكتبه ممسكا سيجارة في إحدى يديه وفي الأخرى هاتف. وعلى الحائط خلفه ثبت علم الثورة السورية وبجواره ملصق مكتوب عليه «ممنوع دخول الشبيحة».

لم يرغب محمد في الحديث مطولا في أكثر ساعات اليوم ازدحاما بالنسبة له. وقال: «ينبغي أن الحضور في الصباح. السوريون لا ينهضون من الفراش قبل الساعة الحادية عشرة ولذا فمتجري خاو حتى ذلك الحين». لكنه رغم ذلك كان مضيافا، أفسح مكانا على أحد الكراسي وأمر بفنجان من القهوة من المقهى المقابل له، وأخذ يتحدث عن تجارته أثناء توافد الزبائن إلى المتجر والذي لم ينقطع.

أنطاكية مدينة صغيرة، تقع جنوب شرق تركيا وتشتهر بتاريخها على صعيد الكنيسة المسيحية، وتجتذب أعدادا من السائحين وزوار المواقع الدينية في فصل الصيف. لكن منذ أن سيطر الجيش السوري الحر على جزء من الحدود السورية التي تبعد نصف ساعة عن المدينة، انضم إلى المصطافين موجة من الصحافيين وعمال المنظمات غير الحكومية والمقاتلين من الثوار، الذين استغلوا المدينة قاعدة لهم للدخول والخروج إلى الدولة التي مزقتها الحرب. تكتظ الفنادق والمقاهي في المدينة وتغص الأكشاك الصغيرة بالصحف وأصحاب الأعمال الصغيرة مثل محمد الذين انضموا إلى الباحثين عن فرص الربح.

ويقول محمد: «كنت أزرع الزيتون في قرية قريبة من الحدود لكني قررت فتح هذا المتجر قبل ثمانية أشهر. أنا سني ولي أقارب ممن يقاتلون النظام، لذا أشعر وأنا أقوم بهذا أنني أساعدهم». عملاء محمد هم مقاتلو كتائب الثوار الذين قدموا إلى أنطاكية لشراء ملابس القتال ومناظير القناصة. ومع بدء الجيش السوري الحر التحول إلى الاحتراف وتبني زيهم الخاص، يأتي القادة إلى محمد لشراء مئات الملابس العسكرية في المرة الواحدة. وفي مؤخرة المتجر جزء صغير من الحائط علقت عليه القلائد وأربطة المعصم بألوان علم الثورة السورية (الأحمر والأسود والأخضر)، ويقول محمد: «لو أحدهم طلب شراء كمية كبيرة أقدم لهم بعضها مجانا».

ازدهار عمل محمد علامة على الحالة المتردية التي تعانيها التجارة في سوريا التي بلغت حد الكساد الكامل، فقد دمرت الحرب عشرات المصانع فيما أغلقت أخرى وانتقل مالكوها إلى تركيا خشية أن يواجهوا نفس المصير. وحتى الذين اضطروا إلى الإبقاء على بعض أعمالهم داخل سوريا ينقلون منتجاتهم عادة إلى تركيا لبيعها هناك.

رد محمد التحية على رجل عجوز أحضر له مجموعة من أحزمة الذخيرة، وقال الرجل: «لا أستطيع بيعها في سوريا لأنها لا تجد سوقا رائجة هناك، ولا يمكنني الإعلان عما أبيعه. لذا أقوم بإحضارها إلى هنا».

في البداية كانت تلك هي الطريقة التي بدأ بها محمد جمع البضائع في متجره، من خلال دمج الإمدادات القادمة من سوريا بالملابس المستوردة من إسطنبول، لكن أنطاكية سوق تنافسية لصانعي الملابس الثورية - فهناك أربع متاجر أخرى لصناعة الملابس العسكرية افتتحت في هذه المدينة الصغيرة.

ولذا قرر محمد في يناير (كانون الثاني) الماضي أن يتخلى عن الوسيط واستعان بخبرات الحياكة لدى أم عمر، أم لخمسة أولاد وجدة لثمانية من اللاذقية التي انضمت إلى الأعداد المتزايدة للاجئين السوريين في المدينة قبل ثمانية أشهر. تهيمن طاولة القص على الغرفة الأمامية في شقتها الصغيرة الواقعة على أطراف المدينة وثلاث ماكينات خياطة وضعت إلى جانب الغرفة. وتقول أم عمر: «اقترضت المال من أقاربي لشراء هذه الأدوات، لكنني أصنع الآن ملابس كثيرة للمتجر لذا أرغب في الاستعانة ببعض العاملين الآخرين لمساعدتي».

عرضت أم عمر نموذجا لسترة ذخيرة على الطاولة وشرحت كيفية دخولها إلى هذا المجال، فقالت: «كنت ربة منزل، لكني تعلمت الخياطة من خلال المجلات وعندما كان أطفالي صغارا كنت أصنع لهم ملابس المدارس، وكنت دائما أرى أن تعليمهم هو الشيء الأكثر أهمية».

لم تتعلم أم عمر صناعة الأقنعة وسترات الذخيرة من المجلات، فقالت: «أخذت سترة صيد وصنعت نسخة منها، ثم أضفت لها جيوبا للذخيرة». والتقطت أحد السترات وعرضت كيف تحيك الحشو في الكتفين لجعلها أكثر راحة. وأضافت: «هذه الملابس تكون ثقيلة للغاية عندما تمتلئ بالذخيرة، ولذا أضيف الحشو إليها لمنعها من الاحتكاك بالجسم. ونحن الآن في فصل الصيف ولذا أصنع هذه السراويل من الأقمشة الخفيفة. أنا أفكر دائما في كيفية صناعة ملابس أكثر راحة للجنود».

يقاتل ابن أم عمر وابن أخيها في سوريا، لكنها لم تلتق على الإطلاق بأي من المقاتلين الذين يرتدون ملابسها، وتقول ضاحكة: «أراهم في بعض الأحيان على شاشة التلفزيون وأتساءل عما إذا كانوا يرتدون الملابس التي أصنعها. أنا فخورة بمساعدتهم وآمل أن ينتصروا قريبا في هذه الحرب. وأود أن ينتهي كل هذا حتى أتمكن من العودة إلى اللاذقية مع عائلتي».

بالعودة إلى المتجر، يقول محمد إنه بفضل أم عمر تمكن من بيع الملابس للثوار بأزهد الأثمان في أنطاكية، وأن «أصحاب المتاجر الأخرى غاضبون منه لأن القادة يعرفون أنني أبيع بأفضل الأسعار». وعبر عن حلمه بالعودة إلى سوريا والزراعة، وقال مبتسما: «عندما تنتهي الحرب سأعود إلى غرس أشجار الزيتون وحياتي العادية، لكن في الوقت الراهن التجارة مزدهرة».