القوات الأميركية تنسحب من الفلوجة تاركة وراءها تشوهات خِلقية وأمراضا.. وتساؤلات

سكان المدينة يصارعون آثار الفسفور الأبيض.. وبعضهم يطالب بتعويضات

جنديان أميركيان يحرسان مركزا لتوزيع المساعدات الطبية في جبيلة، جنوب بغداد، أمس (رويترز)
TT

بعد أن ظلا يعانيان الأمرين لسنوات، لم يكن أمام عامر حسين وزوجته أوفى عبد الله - وهما من مدينة الفلوجة - من خيار سوى التوقف عن الإنجاب. لعن الزوجان حظهما العاثر لأنهما «تزوجا في المكان والزمان الخطأ» بسبب معاناة طويلة مع المرض لطفلين ولدا معاقين، مات أحدهما بينما بقي الآخر يصارع المرض.

حسين (28 عاما) وزوجته أوفى تزوجا عام 2004، وهو العام نفسه الذي شهدت فيه مدينتهما، الفلوجة، التي تقع غرب العراق، معركتين طاحنتين لجماعات مسلحة من المقاومة العراقية، وأخرى من تنظيم القاعدة ضد القوات الأميركية التي استخدمت القوة المفرطة والذخيرة القاتلة لدحر تلك الجماعات المسلحة. بعد سنتين من زواجهما كانت فرحتهما غامرة عندما رزقهما الله بابنهما علاء، لكن سعادتهما لم تدم طويلا، إذ اكتشفا أن مولودهما البكر يعاني من تشوه خلقي وأنه مصاب بضمور في المخ وفشل في وظائف الكليتين. وحسب تقرير لوكالة «رويترز»، قرر الزوجان بعد سنة واحدة أن يجربا حظهما مرة أخرى، لكن القدر كان معاندا، إذ رزقا هذه المرة بطفلة ولدت بساقين غير متساويتين في الطول، إضافة إلى إصابتها بعد شهر واحد من ولادتها بطفح جلدي غطى جسمها كله. وما زالت الطفلة حتى الآن تعاني المرض الذي يقول والداها إن الأطباء أخبروهما بأنه مرض عضال لا علاج له. وقال حسين: «لا أعرف ما السبب.. هذا حظنا العاثر. ربما لأننا تزوجنا في المكان والزمان الخطأ». وأضاف: «قررنا أنا وزوجتي التوقف عن الإنجاب. لأن بالنسبة لنا مولودا جديدا يعني مأساة جديدة ومعاناة جديدة وحروبا أخرى ضد مرض جديد».

حسين قال إنه بذل المستحيل لعلاج ولديه، وبخاصة ابنته، إلا أنه لم يفلح رغم الفحوص والمراجعات العديدة التي استمرت سنوات، وأضاف أن ابنه توفي في فبراير (شباط) من عام 2009، وما زالت طفلته ميس على قيد الحياة في رحلة علاج لا يعتقد حسين أنها ستنتهي قريبا.

ما يقال عن حسين وأوفى ينسحب على العديد من أبناء هذه المدينة ذات الأغلبية السنية، فالكثير من الأزواج يعاني أطفالهم الآن من عاهات وتشوهات خلقية، خصوصا أولئك الذين ولدوا بعد عام 2005 وحتى الآن. ويعزي سكان ومسؤولون وأطباء محليون السبب في التلوث البيئي الذي باتت تعاني منه الفلوجة إلى ما ألقي عليها من ذخائر بكميات كبيرة استخدمتها القوات الأميركية عام 2004 للقضاء على التمرد الذي مثل آنذاك إحدى صور المقاومة العراقية ضد الوجود العسكري الأميركي. واستخدمت القوات الأميركية الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر والدبابات لسحق المدينة التي كانت تعتبر مأوى للكثير من الجماعات المسلحة وجماعات «القاعدة».

وقال أطباء يعملون في مستشفى الفلوجة إن أعداد الأطفال حديثي الولادة ممن يعانون من تشوهات خلقية بدأت تتزايد بشكل ملحوظ بدءا من عام 2005. ورغم حزنها لعدم وجود مركز لتوثيق لهذه الحالات، قالت الدكتورة سميرة العاني، طبيبة أطفال واختصاصية أمراض التشوهات الخلقية، وهي تعمل في مستشفى الفلوجة منذ عام 1997: «قبل الحرب كنا نستقبل معدل من حالتين إلى 3 حالات تشوهات خلقية لحديثي الولادة في الأسبوع الواحد. الآن العدد ارتفع كثيرا بدءا من عام 2005». وأضافت: «أذكر في يوم واحد فقط وهو الحادي عشر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام تسلمنا 11 حالة من التشوهات الخلقية المختلفة لأطفال حديثي الولادة».

ويقول مسؤولون وسكان الفلوجة إن استخدام القوات الأميركية لأسلحة فتاكة، مثل الفسفور الأبيض، لم يتسبب فقط في قتل آلاف من السكان، بل تلوث بيئة المدينة، وهو ما تسبب في ظهور أمراض منها التشوهات الخلقية لدى الأطفال حديثي الولادة لم يألفها السكان قبل عام 2004. ويعرف الفسفور الأبيض بخصائصه الحارقة وما يمكن أن يتسبب به من حروق شديدة في الجسم، كما يعرف أيضا بقدرته على إشعال حرائق لا يمكن إخمادها بالماء، لذلك وصف بأنه من الأسلحة التي تشبه النابالم أو الأسلحة الكيماوية رغم أنه - ومن خلال التعريف القانوني الدقيق - لا يعتبر كذلك.

ومع اقتراب موعد انسحاب القوات الأميركية من العراق فإن ذاكرة العديد من أبناء الفلوجة ما زالت تعلق بها العديد من الصور والحكايات المؤلمة عن معركتين يقول عنهما سكان محليون وعاملون في منظمات المجتمع إن أعداد القتلى الذين سقطوا في هاتين المعركتين يتجاوز 4500 شخص، إضافة إلى تهجير آلاف من العائلات بسبب ضراوة المعارك. وقال ذر عبد الخالق (39 عاما)، مدرس لغة إنجليزية، وهو يدخن النارجيلة في إحدى مقاهي الفلوجة: «أخيرا راح يخرجون. تصدق بالله طول هذه السنين كل يوم أسال نفسي نفس السؤال.. شنو الذنب اللي ارتكبناه حتى يعاملونا هكذا ويضربون المدينة بهذه الطريقة ونبقى نعاني طول العمر».

وكان الجيش الأميركي قد اعترف في عام 2005 باستخدام الفسفور الأبيض في الفلوجة، لكنه قال إنه استخدمه على نطاق محدود ضد المسلحين لا المدنيين، لكن تلك التصريحات لم تجد آذانا مصغية لدى أهالي الفلوجة.

وفي شهر أبريل (نيسان) شهد البرلمان العراقي مناقشات طالب فيها بعض النواب باعتبار ما حدث في الفلوجة في عام 2004 أنه إبادة جماعية. لكن تلك الدعوات سرعان ما أُجهضت بسبب صراعات سياسية حاولت تسييس القضية.

ومع بدء الانسحاب الأميركي من العراق طالب العديد من أهالي الفلوجة ساستهم بالعمل على إيجاد وسيلة لحمل الجيش الأميركي على دفع تعويضات للأهالي وللمدينة، لكن هذه الدعوات لم ترق للكثيرين من أهالي المدينة الذين رأوا أن الخلاص الحقيقي هو مجرد الانسحاب الأميركي من العراق. وقال عبد الخالق: «أسمع بعض الناس هنا يتحدثون عن التعويض.. ماذا يمكن أن يعوضونا.. هل يفيد التعويض مع أناس فقدوا أحباءهم أو أولادهم أو آباءهم..؟ لا نريد شيئا. فقط ليرحلوا».

لكن ما قاله عبد الخالق أغضب عبد الله محمد الذي كان يجلس بجانبه في المقهى، إذ قال: «كيف يخرجون دون تعويض. هم قالوا نحن جئنا لتخليصكم من الظلم لكنهم دمروا بلدنا. والآن يريدون أن يخرجوا. هكذا ببساطة يقولون سلام عليكم ويخرجون هل هذا معقول؟!». وأضاف: «ما فعله الأميركان بالفلوجة لا يمكن أن ينسى. يجب أن يعوضونا ويعوضوا المدينة».

وكان الجيش الأميركي والحكومة العراقية قد شكلا في عام 2004 لجنة لتعويض المدينة والأهالي المتضررين من المعارك. وقال مضعن فوزي، عضو اللجنة: «التعويضات التي صرفت للمواطنين كانت معقولة، أما ما صرف لإعادة تأهيل البنى التحتية التي دمرت بسبب المعركتين فلم يكن يتناسب وحجم الأضرار». وأشار مضعن إلى أن ما يقارب 6 آلاف منزل أصيب بالأضرار سواء أضرار كلية أو جزئية.

وكانت عشائر محافظة الأنبار قد شهدت في عام 2006 تشكيل جماعات مسلحة من أبناء العشائر سميت «مجالس الصحوة» أخذت على عاتقها تطهير المحافظة ومن ضمنها الفلوجة من الجماعات المسلحة التي كانت تتخذ من المحافظة مأوى آمنا. وبفضل تلك الجماعات التي حظيت بدعم من الجيش الأميركي والحكومة العراقية عاد الهدوء والاستقرار للمحافظة التي كانت عصية على القوات الأميركية والعراقية وكانت تعتبر خارج سيطرة الحكومة المركزية. ومع الانسحاب الأميركي أبدى العديد من أهالي المدينة تخوفهم من احتمال عودة الجماعات المسلحة إلى مدينتهم، ويعتقد هؤلاء أن قوات الأمن العراقية ربما لن يكون بمقدورها الوقوف بمفردها أمام تلك الجماعات إذا قررت العودة للعمل المسلح، بينما أبدى آخرون تخوفهم من احتمال وقوع عمليات قتل انتقامية تستهدف عناصر «مجالس الصحوة». وحلت «مجالس الصحوة» قبل عامين باتفاق سياسي بعد أن تم ضم أعداد منها إلى قوات الأمن. وقال أيمن علي (26 عاما)، بائع شاي على قارعة طريق في منطقة وسط الفلوجة: «(الصحوة) والأميركان هم الذين هزموا (القاعدة)، وكل المسلحين الذين كانوا هنا.. الآن الأميركان سيخرجون و(الصحوة) غير موجودين.. تسألني هل ممكن أن يعود المسلحون؟ ممكن. كل شيء ممكن. خصوصا أن قواتنا الأمنية غير مكتملة بعد».