من اخبار بغداد التي تثلج الصدر، أن المشهد الرئاسي الساخن متمثلاً بالرسم الموزاييكي للرئيس الاميركي الأسبق جورج بوش الأب، على عتبة الباب الداخلي لفندق «الرشيد» تمت تغطيته بسجادة حمراء اللون. ومع ان الإجراء الأفضل هو اقتلاع هذا الرسم نهائياً واستبدال بلاطاته ببلاطات عادية.. إلاَّ أنه نصف إجراء طيب في اي حال.
مضى على هذا الرسم 12 سنة. وطوال هذه السنوات لم يبقَ داخل الى الفندق أو خارج منه إلاَّ وداس على هذا الرسم. وشمل الدوس الزوار من عرب وأجانب رسميين وغير رسميين، كما انه شمل رجال الصحافة ونسائها ومحطات التلفزيون من الاجانب، بمن في ذلك الاميركان، الذين لم يعتادوا على مثل هذا العقاب، يتم انزاله بمن كان سيد البيت الابيض، وبمن قاد عام 1991 الحرب على العراق محاطاً بتحالف دولي ـ عربي ـ اسلامي، هو الاول من نوعه في تاريخ التحالفات. ولكن هؤلاء كانوا يدوسون رسم ابن بلدهم... او «بلدياتهم» على نحو التسمية المصرية الشائعة، وإلى درجة بات هذا الدوَسان روتينياً.
لكن السؤال هو: هل إن احداً من «الدوَّاسة» كان مرحِّباً ضمناً بهذا الإجراء؟ وهل انه افاد في كسر الحصار وفي وقف الطلعات الرتيبة اليومية للطائرات الاميركية والبريطانية مخترقة السيادة الجوية لبلاد الرافدين؟ الجواب «لا»، مخففة بالنسبة الى الشق الاول من السؤال. و«لا» قوية بالنسبة الى الشق الثاني. وكل ما «أثمره» الرسم الموزاييكي هو المزيد من الشحن في النفوس المتطلعة الى فجوات صحو في سماء الأزمة.
وثمة توضيح، وهو أن كاتب هذه السطور الذي يدين اسلوب التعامل الاميركي مع المنطقة العربية شعوباً وقضايا، حكاماً ومحكومين، وغير مقتنع بنزاهة الوعود الاميركية في ما يخص الفلسطينيين، وبالذات الوعد الذي قطعه الرئيس بوش الابن على نفسه امام ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ويرى في الأفق الكثير من علامات الاستفهام والتعجب حول حرص حلقات التنظير داخل تلك الادارة في شأن التغيير و«الإصلاح»، ويشك كثير الشك في نوايا اقطاب هذه الحلقات التي تصب في محيط دائرة القرار في تلك الادارة... إن كاتب هذه السطور كان في استمرار مستهجناً ذلك الرسم، ويرى انه بمثل إحراق العلم الاميركي في التظاهرات التي تشهدها بعض العواصم في العالم الثالث، وبالذات في بعض العواصم العربية. كما ان كاتب هذه السطور بدا في تذكيره بين الحين والآخر، ومن خلال ما يمكن قوله وجهاً لوجه او على الورق او على صفحات هذه المطبوعة، التي هي جريدة العرب الدولية، وكما لو أنه طائر يغرد خارج السرب الذي تتمنى طيوره، على انواعها واشكالها، ان يبقى الرسم قائماً على مدخل بهو فندق «الرشيد» يتكاثر «الدوَّاسون» عليه وبذلك يبقى الحقد الصَدَّامي ـ البوشي المتبادل، قائماً في النفوس وبما يجعل العداوة متأصلة والحرب على العراق «مشروعة» من وجهة النظر التكساسية، وغير مبررة من وجهة النظر التكريتية، ويبقى الحصار يفتك بأطفال و«شيَّاب» وفقراء ديار الرافدين المسموح لهم بالموت حصاراً. وهؤلاء للعلم والخبر لا طريق لهم الى فندق «الرشيد» ولا هم من رواد مطاعمه ومقاهيه، بما في ذلك مقهى «الانترنت» في بهوه الفسيح، ومسبحه وملعب «التنس» فيه. ولا هم ايضاً، من الذين في قدرتهم تناول عشاء «مسكوفي» او من المشويات في ركن من حديقته الشاسعة. كما انهم ليسوا ممن في استطاعتهم ان يقيموا حفلة زفاف فيه. وما دامت تلك هي حال هؤلاء، فإنهم، وهم الأكثر تضرراً من الحصار الاميركي المتفاقم منذ 12 سنة، لن يدوسوا بأقدامهم ذلك الرسم الموزاييكي. وفي هذه الحال، فإنهم، وهم الاكثرية الساحقة، لا علاقة لهم بهذا الرسم لا كفكرة ولا كمردود معنوي.
لقد حملت أحدث الأخبار من بغداد الينا، نحن الذين نتمنى ان لا ينتهي امر «البوابة الشرقية» الى ان تصبح بوابة اميركا المتمددة الى المنطقة، النبأ السار الذي يتمثل في انه تمت تغطية الرسم الموزاييكي بسجادة حمراء، وكأنما وضع هذه السجادة التي يتم عادة فرشها في مناسبات الاستقبال الرسمية هو الحل الوسط بين اقتلاع الرسم والإبقاء عليه، مع أن الأفضل هو اقتلاعه الى الأبد، خصوصاً ان الإبقاء على هذا الرسم، وإن كان لا يتم الإفصاح عن ذلك، هو بند في سلسلة الحيثيات التي توجب الحرب من وجهة نظر الادارة الاميركية وحليفها البريطاني على العراق، أو اذا جاز القول انه البند الذي من اجله يريد الرئيس بوش الابن، لو امكنه ذلك، اسقاط الرئيس صدام واهانته بقدر اهانة هذا الاخير لوالد الرئيس بوش الأب، من خلال الرسم الموزاييكي الذي شكَّل اهانة غير مطروقة، ومن الصعب ضمناً التسليم بها.. وإن كان الظاهر هو نوعا من التسليم.
ومن باب الاجتهاد، يمكن القول إن وضع السجادة الحمراء فوق الرسم الموزاييكي الساخن هو تعبير عن نصف حسن نية، بمعنى ان هذه السجادة خاضعة للتطورات ومرتبطة بالرد على الخطوة بمثلها، وفي هذه الحال يتم اقتلاع الرسم واستبداله ببضع بلاطات تملأ الفراغات إذا جاء الرد على الخطوة بمثلها، كأن تصدر ايماءات تشير الى ان الحرب مؤجلة، وإن هي تأجلت يصبح رفع الحصار قابلاً للحدوث، ويصبح البحث مجدياً في تبادل المصالح تحت وطأة ضغط الوجود العسكري الاميركي المستديم في المنطقة. أما اذا لم يتم الرد بالمثل فهذا معناه ان السجادة الحمراء ستختفي ذات يوم بفعل فاعل، ويعود الرسم الموزاييكي برسم «الدوَّسان» الى ان يحدث ما لا يتمنى صاحب ضمير حدوثه، وهو الحرب التي في حال حدوثها ستقتلع حتى ما يصعب اقتلاعه، وحتى ما نفترض انه من غير الوارد اقتلاعه.