الأسد ـ صدام: علاقة الكراهية الشخصية

TT

لم تطل إقامة صدام حسين في سورية، فعندما استعر الصراع بين قيادة عفلق وجناح ابنه «الروحي» صلاح جديد، آثر صدام ركوب الخطر والعودة الى عراق عبد السلام عارف. وكان سقوط قيادة عفلق (1966) بمثابة حافز لصدام ليحث الخطى في طريقه الذي شقه بالعنف والسحل الى السلطة (1968).

صلاح جديد، وليس صدام، هو أول من أرسى «مبدأ» غزو العرب للعرب في عصرهم الجديد. فقبل أن يغزو صدام الكويت بعشرين سنة، دفع صلاح بالجيش السوري لغزو الاردن (1970) بحجة الانتصار للمقاومة الفلسطينية التي كانت تخوض حرب حياة أو موت مع النظام الاردني، فيما كانت القيادات الفلسطينية تعاني من قمع واضطهاد نظام المراهقة الماركسية في سورية.

لكن الغزو السوري كان إحراجا كبيرا لنظام البكر/ صدام. فقد ورث بعث العراق الحاكم عن نظام عارف لواءين عراقيين مدرعين مرابطين في الأردن بعد حرب 1967. وكان الإغراء السوري للعراقيين بالتدخل و«نصرة» المقاومة الفلسطينية شديدا، ولا سيما بعدما وصلت الدبابات السورية الى إربد، لكنهم ظلوا على الحياد. ولم يكد الملك حسين يكسب حربه الفلسطينية، حتى سارع بعث العراق الى سحب قواته من الأردن. كان صلاح جديد من «النضاليين» الذين يعرفون كيف يصلون الى السلطة، لكن لا يعرفون كيف يحتفظون بها. وكانت مراهقة جناحه الحزبي الماركسية سببا في غربته عن السوريين والعرب، اللهم إلا عن عبد الناصر الذي ارتكب خطيئة العمر بالتحالف معه. وجر الحلف المشؤوم على ناصر كارثة الهزيمة أمام اسرائيل مع حليفه السوري. ثم ما لبث جديد أن أزاحه حافظ الأسد في انقلاب أبيض (1970) بعد كارثة التورط بغزو الأردن.

كان الفرز الحزبي واضحا. فقد انحاز صدام الى قيادة عفلق ليستمد منها شرعيته الحزبية، فيما نهج الأسد نهج ترميم العلاقة مع السوريين والعرب. ثم جاءت حرب اكتوبر لتكون محكا للعلاقة بين بعثي العراق وسورية. سارع نظام صدام/ البكر الى «نجدة» سورية بإرسال فرقتين مدرعتين. كان التسليح جيدا وحديثا، لكن القوات التي قطعت أكثر من 400 كيلومتر في صحراء مكشوفة كانت متعبة من عناء الطريق، ومن نسيان القيادة العراقية تأمين الغطاء الجوي لها.

الحروب العربية ـ الاسرائيلية ما زالت مجهولة الحقائق، لأن المؤرخ العربي لا يجرؤ على البحث والتحليل وتقديم المعلومات الميدانية خوفا من سلطة الحاضر. وهكذا، بقي تاريخ هذه الحروب اسرائيليَّ الرواية المفاخرة. لقد ادعى صدام انه «أنقذ» الجبهة السورية من الانهيار. أما الاسد فكان يقول دائما ان المداخلة العراقية جاءت متأخرة وضعيفة الأثر.

وأعتقد ان الحقيقة تُراوح بين المباهاة العراقية والرواية السورية. وقد سارع بعث العراق الى سحب قواته من الجولان متعللا باتفاق فك الاشتباك (1974). وأحسب أن السبب الحقيقي للانسحاب كان خوف صدام من أن يغري السوريون الضباط العراقيين، فلم يكن صدام قد أحكم السيطرة على الجيش العراقي بالتصفية الدموية لكبار ضباطه.

ازدادت العلاقة العراقية ـ السورية توترا بعدما أغوى ذهب صدام فصائل المعارضة السورية بالانحياز إليه والإقامة في العراق، وكان موقف فصائل المعارضة مخجلا ومتناقضا. فقد لجأت الى دكتاتورية لم يعرف العرب مثيلا لها في دمويتها، بحجة الفرار من «دكتاتورية» النظام في سورية.

لعل حافظ الأسد رغب في السبعينات في التهدئة مع بعث العراق، إثر خلافه مع السادات المُصالح لاسرائيل في الكامب، وأيضا بعدما بدأت المواجهة الدموية مع الجهادية الاخوانية في سورية. وبالفعل، نجح إلحاح الرئيس السوري وصبره في إقناع جناح البكر بالمصالحة بين البعثين العراقي والسوري، بل ببلورة مشروع وحدة اتحادية بين البلدين.

أقول هنا ان الصراع بين النظامين تحول من نزاع حزبي الى صراع شخصي بين الأسد وصدام. فقد سارع صدام الى تنحية البكر وإعدام القادة الحزبيين المؤيدين للوحدة مع سورية (1979). لم تكن هناك «مؤامرة» وحدوية كما ادعى صدام، انما كانت هناك الكراهية الشخصية المتبادلة بين الأسد وصدام. وقد حمل الرئيس السوري من زيارته «الوحدوية» الى بغداد مرارة شديدة. وظل يشكو طوال عمره من المعاملة «السيئة» التي لقيها من صدام هناك والتي «لا تليق باستقبال واستضافة رؤساء الدول».

علاقة الكراهية الشخصية اجتازت الحد الأدنى لعلاقة الأخوة بين العرب. فقد تورط صدام في حرب مجنونة مع ايران (1980)، فيما تحالف الأسد معها. وعلى ذمة العماد طلاس، فقد كان الاسد يقارن بين «النضالية» البعثية والجهادية الايرانية، ويصف الخميني بأنه «بعثي في عمامة».

صالح صدام أميركا فيما دخل الأسد في صراع معها ومع حليفتها اسرائيل في لبنان. وعقد راية المصالحة الديبلوماسية (1984) طارق عزيز ونزار حمدون في واشنطن، ودونالد رامسفيلد (ما غيره) الذي حظي بمقابلة (تاريخية) مع صدام في بغداد. ومن يومها أكل صدام وعسكره القمح والرز من المخزون الأميركي الفاخر، وتلقى قرضا بخمسة مليارات دولار بوساطة عربية رفيعة المستوى، وبتدخل شخصي من الرئيس ريغان. وغرف صدام من التقنية الأوروأميركية النووية والجرثومية، وفوقها صور الأقمار الصناعية لحشود القوات الإيرانية التي انتقلت الى الهجوم.

أرجو ان تسمح لي الفرصة يوما لرواية ملابسات القرض المالي لصدام مدعوما بالأسماء العربية وغير العربية والتفاصيل. أما تورط صدام في لبنان فقد جر الكوارث على هذا البلد. شجع صدام الرئيس أمين الجميل على مقاومة الأسد، ودعمه في مشروع صلحه المشؤوم مع اسرائيل، ثم عقد مع زائر بغداد كريم بقرادوني، نائب رئيس «القوات اللبنانية» اتفاقا لشد أزرها ضد «الاحتلال» السوري. وكان قادة هذه الميليشيا يتنقلون معززين مكرمين بين الفنادق الاسرائيلية والفنادق البغدادية.

عطل صدام مسعى الأسد لوقف الحرب اللبنانية طيلة رئاسة الجميل (82 ـ 1989). ثم ما لبث أن تحالف مع العماد ميشال عون الذي اغتصب السلطة بعد الجميل، وتورط في حرب مسيحية دموية مع «القوات اللبنانية» الحليف الآخر لصدام. ولم يكن بالإمكان تحييد صدام في لبنان إلا بعد تطبيق اتفاق الطائف السعودي.

أود ان اختم هذه المسيرة الطويلة للعلاقة العراقية ـ السورية في القرن العشرين بمقارنة سريعة بين شخصيتي صدام والأسد. فكلاهما وعى وعاش عصر «المؤامرة». كلاهما مارس عقد وفك التسويات والتحالفات، وكلاهما كان مؤمنا بإحكام الطوق الأمني للنظام، وكان شديد القسوة على الخصوم والمعارضين السياسيين، لكن الأسد كان وفيا لرفاقه المخلصين له. وكان ملتزما في علاقته العربية، ورأى في السعودية ومصر مبارك حليفين طبيعيين لسورية. وقد قام بدور كبير في التقريب بين دول الخليج وايران.

الأسد في مُقاربته السياسية كان شديد الحذر والتحفظ، ماهرا بشد الخيوط وكسب الحلفاء الميدانيين (لبنان). كان الصبر سلاحه الأكبر. كان يصبر لكي يرتكب خصمه الخطأ. حاول صدام عزل سورية بعدما اعتبر نفسه منتصرا في حربه مع ايران (1988). ولم تسمح علاقة الكراهية الشخصية للأسد بالذهاب الى قمة بغداد، وحذر صديقه مبارك الذي مر في دمشق ملحا على مصاحبته الى العاصمة العراقية من سياسة الدلال العربية لصدام. بعد شهرين من قمة الدلال كان جيش صدام في الكويت، غادراً أول ما غدر بإعلانه «القومي» في عام 1980: «تحريم اللجوء الى استخدام القوات المسلحة من قبل أية دولة عربية ضد أية دولة عربية أخرى، وفض أية نزاعات يمكن ان تنشأ بين الدول العربية بالوسائل السلمية»!

صبر الأسد طويلا على صدام. وأخفقت كل الجهود العربية والسوفييتية للمصالحة بينهما. وعقدت عدة لقاءات وجها لوجه بين الرجلين زادت في ضرام العداوة والكراهية المتبادلة.

لكن الأسد لم يكن يرغب في تدمير العراق أو احتلاله. كان يعارض محاولات الخميني العنيدة اختراق الحدود العراقية. وكان ضد وصول الأميركيين الى بغداد بعد تحرير الكويت الذي شاركت فيه القوات السورية. فلم يكن الأسد يرغب في رؤية غريمه «بطلا أو شهيدا».