ديغول وسبيرز وأنا

TT

قرأت مذكرات الجنرال ادوارد سبيرز، المفوض السامي البريطاني في لبنان قبيل استقلال 1943، اكثر من مرة. الاولى للفضول وهواية التاريخ. والثانية خلال وضع «جنرالات الشرق». والثالثة من اجل رواية «يمنى» التي تدور «احداثها» خلال وجوده في بيروت. وليس من الدقة القول انني قرأت المذكرات ثلاث مرات. فقد كنت اعيد واستعيد. ثم اكرر. ولم اكتف بذلك، بل ذهبت من اجل «جنرالات الشرق» الى كلية سانت انتوني في اوكسفورد وامضيت اياماً في الاطلاع على أوراق سبيرز وصوره.

عندما انتهيت من وضع «يمنى» اعتبرت ان «علاقتي» بالجنرال سبيرز قد انتهت. فقد اصبحت احفظ غيباً النقاط الرئيسية في المذكرات. ورأي سبيرز في الاشخاص. وسخريته من كل سياسي لبناني كان يومها ضد الانكليز. ورأيه في نساء لبنان. وضعفه امام المسز سبيرز. وكرهه لندّه المفوض السامي الفرنسي. وتكراره لروايته الشهيرة، كيف قرع الشيخ خليل الخوري، نجل رئيس الجمهورية، بابه في الليل وهو يرتجف ويبلغه ان الفرنسيين قد اعتقلوا والده ونقلوه الى قلعة راشيا.

الحقيقة ان بعض الكتب تشعر بالملل بعد قراءتها مرات عدة. وبعض الكتب تعود اليها بمتعة متسعة وادراك اعمق. وقد سئمت كتاب الجنرال سبيرز. ولم يعد الاسم يظهر امامي الا نادراً. او في بعض المجالس حيث تثار تلك المرحلة من تاريخ لبنان، وهي مرحلة لم تعد الآن ذات شأن ولا ذات اهمية. لقد اصبحت مجرد شيء من التاريخ.

منذ اسابيع وانا اقرأ، في نشوة عقلية فكرية تاريخية، كتاب «ديغول كان ابي» للاميرال فيليب ديغول. وعندما اترك الكتاب قليلاً واعود لأبحث عنه اجده مع زوجتي. وغالباً ما تخرج بملاحظات ومسائل مررت بها من دون انتباه. والكتاب الواقع في حوالى 600 صفحة هو عبارة عن حوار بين الصحافي ميشال تورياك وفيليب ديغول، حول تلك النواحي والاحداث او اولئك الاشخاص الذين لم يكشف ديغول كل الحقائق التي عرفها عنهم.

في «مذكراته»، يقول سبيرز، انه هو الرجل الذي صنع اسطورة ديغول. وهو الذي حمله على طائرة عسكرية من مدينة بوردو الى لندن لكي يقود منها «قوات فرنسا الحرة». ويقول فيليب ديغول: كذب وهراء وخرافة. وان والده ترك المدينة اولاً في سيارة عسكرية. ولم يكن سبيرز سوى مرافق بسيط. وان كل ما حاكه من اساطير وخرافات كان اساطير وخرافات!

هل انني متضرر شخصياً من قراءة سبيرز واعتمادي على مذكراته؟ الحقيقة انني لم اقرأ في حياتي عن شخصية سياسية (او لها) بقدر ما قرأت عن ديغول الذي بسببه انتقلت من الصفحات الداخلية الى الصفحة الاولى في «النهار». ولكنني في «جنرالات الشرق» اعتمدت مذكرات سبيرز كمرجع لبعض الاسماء والتواريخ. وفي «يمنى» ذهبت الى ابعد من ذلك، فأخذت بأحكامه على البعض، وتقبلت من دون نقاش رواياته عن بعض الاحداث. والآن بعد صدور كتاب فيليب ديغول، من نصدق؟ انني اصدق من من دون تردد فيليب ديغول. واشعر بالندم على بعض ما ورد في «يمنى»، برغم انها في اي حال، رواية لا تاريخ.