الشرق الأوسط الكبير: مشروع مصالح أم إصلاح؟

TT

يُجسد المشروع الأمريكي الذي سمي بمشروع «الشرق الأوسط الكبير»، رؤية الإدارة الأمريكية لدفع منطقة شاسعة تمتد من باكستان شرقاً إلى موريتانيا غرباً ومن تركيا شمالاً إلى الصومال جنوباً تجاه تطبيق حزمة من الإصلاحات المتعددة تبدأ بتشجيع الديمقراطية وتنتهي بالتعاون الاقتصادي.

واللافت للانتباه أن المشروع استقطب ردوداً واسعة على الصعيد الدولي فيما أثار على الصعيد العربي ردوداً واضحة ومتشددة أيضاً تمثلت معظمها بالرفض للمشروع، لكن لأسباب مختلفة ومتعددة.

فعلى الصعيد الدولي، سارعت فرنسا وألمانيا بطرح مشروع مشترك للإصلاح في الشرق الأوسط، بعد ثلاثة أسابيع فقط من ظهور المشروع الأمريكي، وأسميتاه «شراكة استراتيجية لمستقبل مشترك مع الشرق الأوسط» وتمت مناقشة المشروع خلال الاجتماع الذي عقده وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي مع وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في بداية شهر مارس. ومن المقرر أيضا ان تتم مناقشة المشروع خلال الاجتماع الذي سيُعقد في مدينة دبلن يومي الخامس والسادس من شهر مايو القادم، كما سيتم عرضه على قمة الدول الأعضاء في حلف الناتو في اجتماعها القادم في اسطنبول في تركيا.

وعلى الصعيد العربي، فشل وزراء خارجية الدول العربية في التوصل إلى اتفاق جماعي بشأن مشروع الاقتراح الأمريكي، فيما أعدت جامعة الدول العربية مشروعا تحت اسم «ميثاق حقوق الإنسان» لعرضه على قمة تونس في أواخر الشهر الحالي، في الوقت الذي أعلنت فيه بعض الدول العربية رفضها لمبدأ «فرض الديمقراطية من الخارج»، وما يمثله المشروع الأمريكي.

وإذا ما نظرنا إلى المشروع الأمريكي فسنجد أنه يتحدث عن ضرورة أن تقوم مجموعة الدول الثماني في قمتها المقبلة في سي آيلاند بصياغة شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير، وإمكانية أن تتفق مجموعة الثماني على أولويات مشتركة للإصلاح تعالج النواقص التي حددها تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر:

* تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح.

* بناء مجتمع معرفي.

* توسيع الفرص الاقتصادية.

ويورد المشروع الأمريكي تحت هذه البنود الثلاثة الأساسية ستة عشر بنداً فرعياً تتراوح ما بين مساعدة الانتخابات الحرة، ورعاية معاهد تدريب نسائية من أجل تأهيلهن على القيادة والمشاركة الانتخابية، إلى تمويل النمو، ورعاية الأعمال التجارية، وتشجيع التعاون الاقتصادي، وبناء مجتمع معرفي، وتدشين مبادرة للتعليم الأساسي، ومبادرة أخرى للتعليم عبر الإنترنت.

وبداية، فإن موضوع الإصلاح بشقيه: السياسي والاقتصادي هو موضوع ملح لا يختلف عليه اثنان في منطقة الشرق الأوسط. وهو موضوع جديد قديم شغل دعاة الإصلاح ومفكري التنوير ودعاة الليبرالية والحرية الفردية في منطقتنا منذ قرون.

فخلال السنوات القليلة التي تحرر فيها العالم العربي من الاستعمار والتبعية، حققت دوله إنجازات لا تنكر وقطعت شوطاً في مسيرتها تجاه الإصلاح، وأضحت الأفكار الليبرالية، والمؤسسات الدستورية، وسيادة القانون، وإحقاق المرأة لحقوقها، والتنمية الاقتصادية، والحريات الفردية من الملامح التي صبغت مسيرة العديد من البلدان العربية.

وينبغي على المرء ألا يغفل ـ أو يقلل من شأن ـ الصراع الطويل الذي عانت منه الدول الغربية قبل أن تتوصل إلى إقرار وصياغة مفهوم الديمقراطية بمعناه الحديث. فقد خاضت هذه الدول حروباً أهلية، وصراعات مسلحة دامت سنوات طويلة ولم تحصل على الديمقراطية بأكملها مرة واحدة، يكفي أن نعرف أنه في دولة مثل سويسرا فإن المرأة فيها لم تحصل على حق التصويت إلا في عام 1971.

العملية الديمقراطية إذن لا تتحقق بعصا سحرية ولا تتم بين ليلة وضحاها، فهي مجموعة متشابكة من الأفكار والمبادئ تلزمها مؤسسات ترعاها وتطبقها وتستوجب تربة خصبة ورعاية، ولا بد لها من ظروف مناسبة وتهيئة سليمة ومناخ ملائم وقبل كل ذلك، فإن الحديث عنها شيء وممارستها شيء آخر. فالنظريات والمبادئ والأفكار تصبح ميتة إذا لم تخرج إلى النور ويجري تطبيقها وربما تنقيحها وتحديثها في ما بعد.

إذن لا يمكن نقل تجربة ديمقراطية غربية بأكملها وتطبيقها بين ليلة وضحاها في بلد شرق أوسطي، فليس ذلك ضمانا لنجاحها، كما أن مثل هذا العمل قد يقلب الأوضاع رأساً على عقب.

إن الديمقراطية تسير جنباً الى جنب مع الإصلاح الاقتصادي أي أن التطور السياسي والتقدم الاقتصادي هما وجهان لعملة واحدة، كما أن دولا عديدة في منطقتنا أقدمت على إصلاحات اقتصادية كبيرة ليس أقلها إعادة تشكيل هياكلها الاقتصادية وترشيد إنفاقها وإفساح المجال للقطاع الخاص كي يأخذ دوره في تطوير الاقتصاد الوطني وربط عجلة التنمية باستثمارات ومشاركة أجنبية.

أضف إلى هذا أن موضوع الإصلاح لم يعد يدور همساً أو يتردد في السراديب المعتمة، بل ان النقاش والجدال أصبح علناً ومباشراً والشد والجذب لم يعد يدور بعيداً عن الأضواء، وبمعنى آخر فإن هناك مناخا ملائما الآن لهذه الإصلاحات وهناك تربة خصبة وممهدة لهذه التطلعات الأمر الذي يُسهل عملية التنفيذ والتطبيق.

ومع ذلك يجب الإشارة الى ان هناك الكثير من المعوقات والعوائق التي تعترض مسيرة الإصلاح وعلى الأخص في المجال السياسي، في سعيها للوصول إلى ـ وتحقيق ـ العملية الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط، وهي البلدان التي انفردت فيها بالعمل السلطة التنفيذية دون سواها، واستأثرت بها دون مشاركة خارج دائرتها. وليس من المستبعد أن تكون بعض الأصوات التي ارتفعت أخيراً منددة بالإصلاح وبنبذ الديمقراطية الأمريكية ، هي أصوات تهدف إلى التحايل على الإصلاح في سعيها للتشبث بالسلطة والتمسك بموقعها. ومع ذلك فإن الأمل معقود على رياح الإصلاح التي تهب الآن في كثير من العواصم، في أن تجتاز مثل هذه العوائق التي تعترض طريق الديمقراطية والتعددية السياسية.

ولا تقتصر العوائق التي تواجه عملية الإصلاح على تلك التي تأتيها من الداخل، بل ان العوائق التي تأتيها من الخارج ربما تكون أشد وأقسى، خاصة اذا ما كان مثل هذا التحرك قد صدر نتيجة انفعال لحظي أو تصرف متسرع يضع مصلحة الدولة المعنية فوق أي اعتبار آخر.

لا يعيب الولايات المتحدة الأمريكية ـ الدولة الكبرى الوحيدة الآن في الساحة الدولية ـ أن تسعى لتحقيق وحماية مصالحها وتنفيذ أهدافها، لكن محاولتها تغليف هذه المصالح بعباءة الإصلاح والتذرع بأن بلدان المنطقة في حاجة الآن إلى الديمقراطية هو الذي يثير التساؤلات ويبعث على الشك والريبة.

بعض الكتاب الغربيين انتقدوا المشروع الأمريكي علناً، ومنهم الكاتب والصحافي البريطاني ادريان هاميلتون Adrian Hamilton، الذي كتب في صحيفة الاندبندنت قائلا: «السبب الذي يقف وراء احتضان الإدارة الأمريكية لمشروع الشرق الأوسط الكبير، ليس من الصعب العثور عليه، ففي ظل المأزق العراقي فإن الرئيس بوش في حاجة لإقناع الناخبين أنه ما زال يتحرك للأمام. وإذا كان موضوع الضربة الوقائية لا يتردد الآن، فإن البديل الحالي هو القوة الديبلوماسية. وهي سياسة يمكن أن تحقق مكاسب اضافية إذا ما تضافرت القوة الأمريكية مع المواقف الاقتصادية الأوروبية.. وكل ذلك جيد للغاية باستثناء حقيقة أن هذه الفكرة مبعثها ـ مرة أخرى ـ مصالحنا الخاصة ونظرتنا الخاصة لاحتياجات الشرق الأوسط.. وليس نظرة أو احتياجات الشرق الأوسط الخاصة».

هذه العبارات المطولة أسوقها للتدليل على أن بعض المثقفين والكتاب الغربيين يتشككون علناً في نوايا الولايات المتحدة الأمريكية بشأن مشروعها للشرق الأوسط الكبير، بل يتساءلون عن السبب وراء عدم إدراج دول مثل أوزبكستان وأذربيجان ضمن الشرق الأوسط الكبير رغم عدم وجود ديمقراطية فيهما.

وحتى النموذج الذي تقدمه الإدارة الأمريكية لإصلاح المنطقة هو في مجمله وتفاصيله نموذج أمريكي يفترض واضعوه أنه قابل للتطبيق على كافة الدول وكل الشعوب دون إدراك للجوانب الثقافية والاجتماعية والاختلافات الدينية والمذهبية والفروق التاريخية والحضارية لكل مجتمع. وإذا ما استرجعنا تجربة الولايات المتحدة في العراق، فسنجد أن نجاحها كان كاسحاً في الإطاحة بصدام حسين ونظامه، أما تعاملها مع المجتمع العراقي وطبقاته فأقل ما يقال فيه هو أنها لم تكن مستعدة للتعامل معه وهو ما يتضح ويتأكد يوماً بعد يوم.

ينبغي على واشنطن أن تدرك أن لها اصدقاء في الشارع العربي يأملون في إدارة حوار عقلاني وهادئ ويسعون أيضاً للتحفيز على قراءة عربية عادلة للسياسة الأمريكية إزاء المنطقة. ومع ذلك، فإن هؤلاء الاصدقاء يدركون أيضاً أن عملية الإصلاح التي ترفع الولايات المتحدة الأمريكية رايتها اليوم، ليست تهدف إلى الإصلاح بقدر ما تهدف إلى تحقيق مصالح أمريكية.

وبقدر ما هنالك من دعوات تتردد على اسماع الشارع العربي من أجل التعاون مع أمريكا من منظور المصالح، بقدر ما يجب على واشنطن أن تحترم إرادة ورغبة شعوب ودول هذه المنطقة وألا تتمادى في تقديم مصالحها على مصالح هذه الشعوب وتصر على المضي قدماً في تنفيذ «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، فالنتيجة المؤكدة لذلك هو تكريس المزيد من العداء العربي لها والتراجع عن الخطوات التي اكتملت في مجال الحوار البناء مع الشريك الأجنبي.

دول الشرق الأوسط بحاجة ملحة للإصلاح السياسي والاقتصادي. وكثير من الأنظمة في هذه المنطقة ليست متحفزة أو مؤيدة للتغيير، الأمر الذي يؤكد الحاجة لممارسة الضغوط عليها، سواء من داخل المنطقة أو خارجها، لكن من خلال القنوات الديبلوماسية والسياسية المتاحة وما أكثرها لدى واشنطن مع كافة دول المنطقة بدلاً من تقديم مشروع علني تختلط فيه الأوراق وتتشابك فيه الأفكار دون ان تسمى الأشياء بأسمائها!! وإذا كان لا بد للمنطقة من مشروع أمريكي كبير فثمة حاجة ماسة لخلق استقرار وسلام في المنطقة يليه إصلاح شامل وتحديث كامل من خلال حوار متعدد الأطراف.

* إعلامي كويتي