كيف صعد عزة الدوري.. بائع الثلج ومريد الصوفية؟

TT

عزة ابراهيم الدوري، الذي ألقي القبض عليه في عيادة طبية بتكريت يوم أمس، من القلائل الذين ظلوا أحياء متنفذين في حزب البعث والدولة العراقية على مدى خمس وثلاثين سنة. وما أبقاه طوال هذه الفترة ليست طاعته العمياء لصدام حسين فقط، مثلما حاول الشارع العراقي المعارض إظهاره بمظهر الغبي، أو كما يسميه العراقيون (طرطوراً)، وهو الشخص الجاهل والعاجز الذي لا يحل ولا يربط، وقد تردد هذا المعنى كثيرا في مفاكهات العراقيين ونكاتهم حوله. الرجل كان مهما، وأهميته تعود، بالاضافة لطاعته لصدام، إلى كونه من الشخصيات غير المتهاونة في تنفيذ قرارات القسوة ضد أي بادرة أو أي صوت يعترض التكتل الذي يقوده صدام حسين منذ تموز 1968، يضاف إلى ذلك دوره التنظيمي والحركي في الحزب من قبل الثورة.

كان عزة الدوري مقتنعاً تماماً ببطولات وعبقرية صدام حسين كقائد لحزب البعث، إلى درجة أنه قضى هذا الفترة 35 سنة يتبعه كالظل عندما كان الأخير نائباً، من دون أن يفرط في العلاقة بأمين عام الحزب ورئيس الجمهورية السابق أحمد حسن البكر. ليس لعزة الدوري دور في الثامن من شباط 1963، مثلما لم يعرف لصدام حسين نفسه مثل هذا الدور، لكنه برز خلال التنظيم السري الذي أسفر عن انقلاب 17 تموز 1968، ليتبوأ بعده مراكز قيادية كعضوية مجلس قيادة الثورة، ووزير الزراعة، ورئيس المجلس الزراعي الأعلى، وهي أعلى سلطة زراعية واقتصادية في البلاد. وبطبيعة الحال احتل تلك المراكز، مثله مثل الآخرين، بلا مؤهلات علمية وإدارية، فالقول الفاصل كان للمؤهل الحزبي، الذي كان عزة الدوري متقدماً فيه.

قبل تموز 1968 بشهور، شوهد الدوري يقف أمام مرقد الإمام أبي حنيفة النعمان بالأعظيمة، شمال بغداد من جهة الرصافة، يبيع الثلج في صيف بغداد اللاهب، ولم يفارقه منشار قطع الثلج حتى صبيحة انقلاب تموز، ليظهر على شاشة التلفزيون أمام أعين زبائنه البغاددة عضواً في أعلى هيئة حكومية هي مجلس قيادة الثورة، وعضواً في أعلى هيئة حزبية هي القيادة القطرية، والمناصب الكبرى الأخرى التي ذكرناها.

وبائع الثلج عند العراقيين شأنه شأن الحرف الدونية من الحياكة وزراعة الخضار إلى عمالة البناء، لذلك ظلوا يكنونه همساً بأبي الثلج. وبطبيعة الحال عدّ صدام حسين نفسه صاحب فضل على أصحاب تلك المهن من البعثيين الكبار، فهو لم يتردد في تذكير محمد عايش، عضو القيادة القطرية ووزير الصناعة، بعمله السابق وهو يحمل الدرج للأسطا أو المهندس، لكن محمد عايش ذكر صدام بوضعه السابق، فشاع عن جرأته أنه قال لصدام وهو بموقع المتهم بالتآمر في تموز 1979 «الذي أتى بك، أتى بي إلى هذه المنزلة».

وعزة الدوري من هؤلاء الكادحين الذين تحولوا من باعة أو عمال ثانويين، إلى أسياد أغنى بلد في العالم الثالث، لذا ليس من أحد منهم له الاعتراض على تقديم علي حسن المجيد أو حسين كامل، وخاصة صدام وأقربائه من عرفاء ونواب عرفاء في الجيش، إلى رتبة لواء فما فوق. والدوري كان أحد الذين وضع صدام على كتفيه رتبة فريق أو فريق أول. فبائع الثلج، أو حسب ما كناه العراقيون أبا الثلج، زين كتفيه بسيوف وتيجان ونجمات مذهبة.

أصبح الدوري، بعد أن «نط» صدام حسين إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس قيادة الثورة وأمين عام الحزب وقائد الجيش، النائب لرئيس مجلس قيادة الثورة، وهو المنصب ذاته الذي كان يسمح لصدام أن يكون الرئيس غير المعلن، وبالتدريج تمت إزاحة أحمد حسن البكر، لتتغير مهام منصب النيابة، ويصبح ظلاً تبع صدام، ولم يعد يسمى الدوري السيد النائب، مثلما كان يسمى صدام حسين. لكن مع ذلك كان الدوري عنصراً هاماً في دائرة صدام حسين، له السطوة في الحزب والدولة والقرارات الخطيرة، وربما كان تسفيهه والسخرية منه بين العراقيين مدعومين من صدام حسين نفسه، ليظهره بمظهر التابع. فحصل كثيراً أن وجه له أسئلة واستفسارات يُضحك بها الآخرين منه.

هناك جانب آخر في حياة عزة الدوري، ألا وهو ارتباطاته القديمة بالتكايا والحلقات الصوفية، وقد نعمت العديد من هذه التكايا بعنايته، بمعنى أنه كان متديناً على طريقة أهل التصوف، لكنه لم يكن صوفياً بالمعنى المعروف. فلو كان كذلك ما انخرط في صفوف حزب البعث، وما تولى مناصب في الدولة، وما ساهم في ممارسة القسوة بإفراط. فالانتساب للتصوف غير الانتساب لحلقة صوفية، فهو ممارسة وفكر وسلوك، والمتصوف الحقيقي لا يقر ممارسة الدربشة أو الدروشة في الذكر الصوفي، من طعن البدن بالخناجر إلى مسك الكهرباء واللعب مع الأفاعي وغير ذلك من المخاطر. هناك شخصيتان من شخصيات قادة حزب البعث وسلطته بالعراق، جمعتا بين الإيمان بالمؤثر الروحي، وبين مبادئ الحزب البعيدة عن الهاجس الديني والروحي، ألا وهما أمينه العام أحمد حسن البكر والرجل الثاني فيه عزة الدوري. حرص الأول، رغم سنيّته، على زيارة مرقد العباس بن علي بكربلاء، وكان يؤمن بالقسم به، حسب ما ورد ممن نقل عن وزير الدفاع ونائب رئيس الجمهورية السابق، وقتيل صدام حردان التكريتي، ثم اهتمامه المعلن في وسائل الإعلام العراقية بمرقد الحمزة في محافظة بابل، وزيارته المتكررة له والاستشفاء بكراماته. أما عزة الدوري فكان له الاهتمام الكبير بحلقات الذكر، حتى شاع بعد هروبه أنه ظل محتمياً بتكاياها ولائذاً بمشايخها. وقد حصل في ظل حكم حزب البعث شيء من التساؤل أنه لماذا تحرم مواكب عاشوراء، والعزاء الحسيني، بينما تقوم الدولة بتشجيع التكايا الصوفية، أتى ذلك رداً على تفسيرات السلطة في منع العزاء الحسيني بأنه من المظاهر غير الحضارية، والتي لا تتفق مع توجه وبناء دولة حديثة ومتطورة.

ختاماً، إن إلقاء القبض على نائب صدام حسين، ينهي فصلاً آخر من فصول ملاحقة المسؤولين السابقين، ويضع حداً لإشاعات قيادة الدوري لما يسمى بالمقاومة، ومبايعته أميناً عاماً لحزب البعث بعد صدام حسين.

* كاتب وباحث عراقي