العلاقات الفلسطينية ــ الكويتية: إمكانية تجاوز مرارة الماضي.. لا تلغي أسئلة المستقبل

TT

أعجبني تعبير أحد أعضاء البرلمان الكويتي قبل يومين، والذي اعتبر فيه أن الحكومة الكويتية تمتلك «نزعة ماسوخية»، تدفعها لزيادة حجم المساعدات التي تقدمها للسلطة الفلسطينية «مكافأة لمن قام بالإساءة للكويتيين وتعذيبهم» على حد وصفه، فهناك حاجة لبعض التعبيرات الساخرة في اللغة السياسية اليومية الباردة، ولكن الناطق باسم كتلة العمل الشعبي والعضو في البرلمان الكويتي، النائب مسلم البراك لم يتحل بنفس الروح الساخرة، عندما طالب باعتذار رسمي يصدر عن المنظمة، مكتفياً باعتبار اعتذار رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس ابو مازن لدى زيارته للكويت قبل أيام، غير كاف.

والاعتذار الفلسطيني سبقته تصريحات رسمية كويتية على لسان رئيس وزرائها الشيخ صباح الأحمد، الذي قلل من أهمية الاعتذار، مطالباً بألا نكون كالأطفال نتمسك بطلب الاعتذار وأعتقد، والله أعلم، أنه يقصد المذكورين أعلاه.

والأريحية التي أبداها رئيس الوزراء، على حد وصف أبو مازن، لا تتطابق مع بعض المواقف الشعبية والبرلمانية التي توقفت بها الذاكرة، عند موقف المنظمة من الغزو العراقي للكويت، حتى بعد رحيل المسؤول الأول عنها الراحل ياسر عرفات، وآخر دلالات تأزم ذلك التيار ما جرى مع مدير قطاع الأخبار في تلفزيون الكويت، الذي تم تجميده بعد أن تبع حدس مهنته، وبث تقريراً محايداً عن وفاة عرفات، لا مدحاً فيه ولا شتيمة، وإنما سرد لسيرته كرجل كان يلعب دوراً مهماً على ساحة السياسة الدولية، حيث يعد تجاهل حدث كهذا، خطأً مهنياً فاضحاً، فما كان من بعض التوجهات النيابية المتأزمة إلا أن طالبت بإقالته.

والآن تأتي التصريحات الرسمية الكويتية لتلامس أوتاراً حساسة في الوجدان الكويتي، فتحت قشرة الغضب والبرود واللامبالاة، هناك ثمة رغبة في النسيان والصفح وعدم التنكر لقضية، لا يمكن انتزاعها من الوجدان الكويتي والذاكرة الكويتية، فعلى المستوى الرسمي وحتى في أقسى لحظات القطيعة الرسمية التي استمرت 14 عاماً، بقيت الكويت الرسمية ملتزمة بتقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، وفي ذات الوقت الذي كان يحجم فيه المسؤولون الكويتيون عن مصافحة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في المحافل العربية، ساهمت الحكومة الكويتية في إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية من خلال مؤتمر المانحين الأول، ومؤتمر المانحين الثاني الذي عقد في واشنطن، وقدمت حوالي 150 مليون دولار لصندوق الأقصى لدعم الانتفاضة، كما أنها تقدم حوالي مليون دولار للسلطة الوطنية الفلسطينية وبشكل شهري منتظم، بالإضافة إلى عدد من المشروعات التنموية التي تمولها الحكومة الكويتية وبشكل مباشر، هذا بخلاف ما يذهب من خلال القنوات الشعبية واللجان والتي تجمع أموالاً ضخمة، يذهب جزء كبير منها للأراضي الفلسطينية لا يعرف حجمها، ولذا يمكن القول إن الكويتيين قد وضعوا أسساً للتعامل مع الملف الفلسطيني أثناء سنوات القطيعة الرسمية، عبر التزامهم بدعم القضية الفلسطينية دون دعم الرئيس عرفات.

و«العتب» الكويتي يعرف أسبابه المتابعون للملف الفلسطيني. فحركة فتح ولدت في الكويت على أيدي مؤسسها الراحل ياسر عرفات ورفاقه، والذي كان يعمل مهندساً فيها، ولقي كل الدعم السياسي والمعنوي والمادي ليؤسس الحركة الوليدة، وفي مرحلة أخرى مظلمة في الذاكرة العربية، يذكر الكويتيون جيداً كيف قام ولي العهد الكويتي بإخفاء الزعيم الفلسطيني في بشته (عباءته) لمساعدته على الهروب إنقاذاً لحياته أثناء أحداث أيلول الأسود، وذلك وفقاً لرواية ولي العهد الكويتي الشيخ سعد العبدالله الصباح لمحطة الجزيرة الفضائية، وكانت العباءة الكويتية أو بالأحرى البشت الكويتي الذي أنقذ حياة عرفات، وإنشاء حركة فتح في الكويت، حتى أصبحت على أعتاب الدولة، ما حمل الكويتيين على عدم تصديق موقف منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها عرفات المؤيد للغزو العراقي للكويت، والذي شكل صدمة كبرى للشارع الكويتي، وما زاد الطين بلة قيام بعض الفصائل الفلسطينية بالتعاون مع جيش الإحتلال، ومعاونته على التنكيل بالكويتيين الصامدين والمقاومين للإحتلال، ويعرف كثيرون من أمثالي ممن بقي في الكويت أثناء الإحتلال، أن هناك فلسطينيين مسؤولين بشكل مباشر عن حالات اعتقال وتعذيب وقتل قام بها الجيش العراقي ضد عدد من أبطال المقاومة الكويتية، ومن المدنيين العزل.

ثم جاء موضوع مدريد وأوسلو ليشكل صدمة أخرى للشارع الكويتي كما والشارع العربي، الذي لم يكن يرى جزءا كبيرا منه في الذهاب إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل سوى الخيانة والتخلي عن مسيرة النضال الوطني، مما عزز من حالة عدم الثقة بالقيادة الفلسطينية لدى الشارع الكويتي.

ولكن ومن جهة أخرى، يتذكر الكويتيون أيضاً أن هناك كثيرا من الفلسطينيين الذين قدموا يد العون والمساعدة لهم أثناء الاحتلال، وما زلت أتذكر جيداً أنه وفي أثناء الإحتلال العراقي لبلادي كانت هناك أوقات يتم فيها الاعتقال العشوائي للكويتيين من الشوارع بالآلاف، حتى أصبح التواجد في الشوارع مسألة بالغة الخطورة، وفي تلك الأثناء كانت العائلات الفلسطينية بحكم امتلاكها القدرة على الحركة بحرية، تلعب دوراً كبيراً بتزويد العائلات الكويتية بالمؤن التي شحت بشدة بعد أن استولى الجيش العراقي على معظمها، وما أثار الاستغراب حينها أن الكثير من العوائل الفلسطينية التي أعانت الكويتيين وساعدتهم على الاستمرار، غادرت البلاد بعد تحرير الكويت على أيدي قوات التحالف، خوفاً من أن يؤخذوا بجريرة غيرهم، غير أن غيابهم عشية التحرير وبعد عودة الشرعية الكويتية ترك خلفهم كثيرا من التساؤلات والأسى، والتفهم في ذات الوقت. فهناك أوقات من الحكمة أن يبتعد الإنسان فيها عن مواطن الصراع، عندما يصعب الفرز وتتداخل جهات عديدة، لا تستطيع التقصي بدقة، أو تطبق العدالة كما ينبغي مهما اجتهدت.

واليوم يعود السؤال الفلسطيني ليطرح مجدداً في الكويت، هل زيارة أبو مازن هي البوابة نحو تخطي الماضي؟ هل الكويتيون مستعدون للصفح والنسيان؟ والواقع أن هناك عدة عوامل تحكم تلك المسألة، أولها المواقف الشعبية الكويتية المتعددة والتي تتأثر في واقع الحال بالتوجهات الرسمية، وثانيها الدعم الدولي الذي تحظى به حكومة أبو مازن، وتأثير ذلك على صناعة القرار الكويتي والسياسة الخارجية الكويتية، وثالثها هو الثقل الذي تتمتع به القضية الفلسطينية على الأجندة السياسية الكويتية رسمياً وشعبياً وبمعنى آخر حتمية المصالحة.

شعبياً، فإنه وخلافاً لما يعتقده كثيرون ومنهم النائب مسلم البراك، بأن الكتله الشعبية تمثل الشارع الكويتي، وهو استنتاج يفتقر للدقة، فأكثر نائب في حصص التصويت في الكويت لا يحصل على بضعة آلاف من الأصوات على أكثر تقدير، كما انه من المعروف أن 17% فقط من الكويتيين يصوتون في الانتخابات، وتلك النسبة لا تمثل بأي حال من الأحوال الشارع الكويتي، إلا بقدر ما تتمكن من التأثير على توجهاته.

والشارع الكويتي اليوم يجد نفسه واقعاً في العديد من التناقضات التي ذكرت آنفاً، وباعتبار انه لا يصح أن يؤخذ الشعب الفلسطيني وقضيته التي تكتسب صفة التقديس، بالمفهومين الديني والقومي، بجريرة بعض التيارات والأجنحة في المنظمة وفي الشارع الفلسطيني، كما أن الشارع الكويتي بأطيافه المتعددة يدعم بشكل كبير القضية الفلسطينية والتي تكاد تكون ذات التأثير الأكبر في تكوين المزاج السياسي الكويتي، وعلى أرض الواقع وبعيداً عن التصريحات الملتهبة التي يلقيها بعض الأعضاء البرلمانيين من وقت لآخر، هناك اليوم حوالي 60.000 فلسطيني يعيشون في الكويت بلا مشاكل (كان عدد ابناء الجالية الفلسطينية في الكويت يقدر عشية الغزو العراقي للكويت بحوالي 450,000 فلسطيني)، معظمهم يعملون في المهن التجارية الصغيرة، وتلك التي تتطلب احتكاكاً مباشراً بالناس، وتتطلب قدراً من الثقة في التعامل اليومي، كالبيع في المحلات، أو المهن اليدوية والحرفية، او كذلك في المهن الإدارية والمحاسبية والتنفيذية العليا، وفي سلك التدريس في المؤسسات الخاصة والعامة، والبعض منهم يحتل مناصب رفيعة في تلك المؤسسات، ومعظم هؤلاء يتمتعون بقدر عال من الثقة، ويحظون بعلاقات متميزة مع نظرائهم الكويتيين، بناء على ذلك الرصيد من الخبرات المهنية. ولا يزال كثير من أرباب العمل الكويتيين يميلون لاستخدام العمالة الفلسطينية، وهناك العديد من الأسر الكويتية تحتفظ بعلاقات قوية ومميزة بالعائلات الفلسطينية، بالرغم من أن هناك في الطيف الفلسطيني في الكويت من يفضل البقاء ضمن الدوائر الاجتماعية الفلسطينية. وعلى المستوى الإعلامي فقد كان الكويتيون منذ أوائل الستينات منخرطين بشدة في الشأن الفلسطيني لقوة التيار القومي في الكويت حينها، ويجوز القول إن الصحافة الكويتية وحتى عام 90 كانت صحافة فلسطينية في الواقع، فالمانشيت الفلسطيني هو الذي يتصدر الصفحات وتتوارى الأخبار الكويتية دوماً في ذيول الصفحات، كما أن معظم الصحف الكويتية كانت تدار من قبل كوادر تحرير فلسطينية عالية الكفاءة، وذات حس وتوجه سياسي واضح، وكما هو معروف كانت الكويت ملاذاً لكثير من الكتاب والنشطاء والسياسيين الفلسطينيين، الذين كانوا يجدون فيها منبراً حراً لهم، كما فعل على سبيل المثال فنان الكاريكاتير الكبير الشهيد ناجي العلي طيب الله ثراه.

غير أنه وطوال تلك السنوات حدثت عملية فيزيائية بحتة، فأي فراغ يحدث سرعان ما يمتلىء، وهكذا تبدلت الحقائق الديموغرافية على الأرض، وحدث إحلال للفراغ الذي أحدثه غياب العنصر الفلسطيني بأيد عاملة معظمها من مصر ولبنان وسورية بالدرجة الأولى، ومن ثم بجنسيات آسيوية متعددة، مما يضع حداً لسقف توقعات أبو مازن وفريقه، الذين كانوا يطمحون بعودة كبيرة للعمالة الفلسطينية في الكويت.

واليوم نجد التيار الإسلامي في الكويت يكاد يكون مسيطراً على معظم الاتجاهات السائدة في الشارع الكويتي، وربما يمكن القول إن هذا التيار ظل طويلاً يستمد شرعيته من دفاعه المستمر عن قضية القدس وحق الشعب الفلسطيني في النضال والجهاد، وهو تيار لا يدعم تيار أوسلو ويميل بشكل أكبر لتوجهات حماس والجهاد وحزب الله وغيرها من التنظيمات، وهذا يفسر على مستوى آخر عدم حماسه لزيارة أبو مازن، الذي يمثل أحد أهم وجوه تيار أوسلو، ومن المعروف أن الكويتيين لعبوا دوراً هاماً في جميع الحروب التي خاضتها الدول العربية ضد إسرائيل، منذ أن كان المد القومي يشهد مداه في الكويت أثناء أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، إلى أن جاءت القوى الإسلامية بأطيافها المتعددة لتمارس نفس الدور من منظور آخر.

لقد لعب رحيل عرفات دوراً كبيراً في تهيئة المزاج العام الكويتي للقبول بالمنظمة، ونزع أهم أسباب التوتر في العلاقات الكويتية الفلسطينية، إلا أنه لم يسد الطريق بعد على بعض القوى السياسية التي تجد مشكلة في التعامل مع أي ممثل للشعب الفلسطيني، لا يتفق مع توجهاتهم. وقد أدى غياب التأييد للمنظمة على الساحة الكويتية لتنامي التيار المؤيد للتيارات الراديكالية في الشارع الفلسطيني مثل حماس والجهاد، وهو ما استفادت منه القوى الاسلامية الكويتية بشدة، إلا أنه ما من شك أن التحرك الحكومي الكويتي والتجاوب مع زيارة أبو مازن، سيفسح الطريق أمام توجهات أخرى مؤثرة لتتمكن من إعادة العلاقات الشعبية الكويتية ـ الفلسطينية على أساس دعم السلطة الفلسطينية، في ضوء الدور الذي ستلعبه في تحقيق المصالح الفلسطينية، وتخفيف حدة التوتر والاحتقان في المنطقة، وفي ضوء الدعم الدولي الذي تحظى به حكومة أبو مازن، والذي يمكن أن يقود لتوفير مناخ أفضل للمفاوضات، بعد التعثر الذي شهدته طوال السنوات السابقة بعد رفع الغطاء الدولي عن عرفات.

ولكن هل تجوز المراهنة على تيار أبو مازن، أم أن نموذج أحمد ياسين ومروان البرغوثي وحسام خضر وكتائب شهداء الأقصى وغيرهم، هي ما يريده الشباب العربي في الواقع سواء في فلسطين أو الكويت أو العالم العربي؟؟ وهل تحمل الحقيبة الفلسطينية مزيدا من المفاجآت أم أن طريق أبو مازن بات سالكاً؟ وأي التيارات يرغب الشارع الكويتي في دعمها حقاً؟ تلك أيضا أسئلة مشروعة تبقى إجاباتها رهن المستقبل وعطاءاته.

* إعلامية وباحثة كويتية