حمير الأزمنة الصعبة

TT

يا عجبا لقد رأيت العجبا حمار قبان يسوق الأرنبا حمار وابن حمار من لا يصدق ان الانتفاضة الفلسطينية حققت بعض اهدافها، وبالله عليكم عذرا على هذه الحماسة الحمورية التي تسبب فيها حمار القدس الشارد الذي زرع الرعب في صفوف الصهاينة الاسبوع الماضي، وجعلهم يستنفرون قواتهم الخاصة لمطاردته في شوارع القدس العتيقة ظنا منهم انه مفخخ.

وهذه الحالة تقول اشياء كثيرة اهمها انهم لا يحسون بأي شكل من اشكال الأمان، ومن كان في مثل تلك الحالة لا بد ان يفكر بأنه لا يستطيع الحصول على الأمان إلا حين يحل مشاكله مع جيرانه، فإذا نقلت هذا الشعور من القدس الى المستوطنات تدرك على الفور ان الذعر من الحمير والخرفان والدجاج لن يساعد على النمو الطبيعي للمستوطنات، بل على العكس فقد تدفع مشاعر الذعر الألوف من الذين هاجروا ليستوطنوا الى التفكير بالعودة من حيث أتوا، وهذه اصابة في مقتل في هذا الزمان الصعب حققها حمار القدس الذي انسانا في غمرة مغامراته حمار بوريدان الضائع بين الخيارات الممتازة على عكس حمار الحكيم الذي لم يكن له إلا هدف واحد هو ان ينصفه الزمان فيركب صاحبه بدلا من ان يمتطيه ذلك الصاحب الثقيل الذي لا يستحق.

وقد بنى الحكيم امنية حماره على اسطورة ملخصها ان حمار الحكيم توما نطق في السوق ذات يوم وقال:

متى ينصف الزمان فاركب، فأنا جاهل بسيط اما صاحبي فجاهل مركب، فلما قيل للحمار ما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركب، رد بصوت تقطر منه الحكمة والرصانة قائلا:

الجاهل البسيط هو من يعلم انه جاهل، اما الجاهل المركب فهو يجهل انه جاهل.

لا فض فوك يا حمار الزمان، فأنت والله اذكى من حمار القبان الذي استهللنا بشعره، وهو لمن لا يعرفه دويبة صغيرة بأرجل كثيرة كأم اربع واربعين، واذكى ايضا من حمار الأعشى الوارد في قوله:

وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمار وقبل ان تلاحظوا انه كان للشعر بيوته وحميره منذ الأعشى لا بد من توضيح هذا البيت الغريب الذي كرهه النقاد واحبه اللغويون، وحمار الأعشى في اللغة قطعة من الخشب توضع في مقدمة الهودج اما الآسرات، وكل امرأة آسرة او أسيرة فهن النساء اللواتي يمسكن بتلك الخشبة فيصرن اسراها وهي عقوبة تستحقها كل من تفضل ركوب الجمال على ركوب الحمير.

وعلى هذا الصعيد يقولون ان كل امرأة تحلم اولا ببيت فخم مع مسبح وخدم وحشم واسطول سيارات وطائرات خاصة ثم تبحث عن حمار يحقق لها تلك الاهداف كلها.

ولا اريد الاستمرار في هذا المنزلق الخطر، فحديث النساء كالشعر صعب سلمه والاسهل منه حديث حمير السياسة وحمير اللغة، فقد اشكل على الفريق الثاني تعبير «كأحمر عاد» الوارد في معلقة زهير فقالوا كان يقصد احمر ثمود وهو لقب قدامة بن سالف الذي عقر ناقة صالح وظلت المعركة سجالا بين الطرفين الى ان استعان ابو عبيدة ببعض النسابة وهؤلاء مثل الصحافيين يجدون تخريجة لكل شيء فقال الرجل للغويين ان ثمودا من عاد وحسم النقاش التاريخي وعند ذلك الحد انتقل الحديث الى الأحيمر وهو حمار الوحش الذي يتسلم عادة وزارة التخطيط في الحكومة الحيوانية ليصير الحمار المناسب في المنصب المناسب، وتلك حكمة نادرا ما يطبقها بني البشر.

وبعد حادث حمار القدس لا بد من حملة انصاف لذلك الحيوان الأليف اللطيف الصبور وانصاف اصحابه معه فالحمارة أي اصحاب الحمير كانوا يأخذون اقل من نصيب اصحاب الخيل من الغنائم ، وبما ان هذه الايام ليس فيها غنائم لأحد ولم نسمع عن حصان او بغل بث الذعر في صفوف الصهاينة، فلا بد في الأزمنة الصعبة من تقديم حمار القدس على حمار بوريدان وحمار الحكيم ومع الحفاظ على اللازمة الحمورية الدائمة «متى ينصف الزمان فاركب فأنا جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب» واذا كان هناك من يستحق ان يركب فإنه بعض اولئك الذين اعتقدوا ان الخوف من المستقبل يعشعش بين الفلسطينيين وحدهم وها هي «عنفصة» حمار القدس تأتي لهؤلاء بالخبر «اليقين» وتكشف عن حجم الخوف الذي يسكن الصهاينة، ويجعلهم يتأهبون ويستنفرون لمرآى حمار شارد في السوق العتيق.