الاستعمار البريطاني رحل عن السودان نهاية عام 1955م وترك خلفه خدمة مدنية ممتازة لا يضاهيها انضباطا وكفاءة الا تلك التي تركها البريطانيون في شبه القارة الهندية.. ولعل من الانصاف ان نقر بأن الحكم الوطني الأول بزعامة الرئيس اسماعيل الازهري قد حافظ على الخدمة المدنية وصانها من التدخلات السياسية، واستمرت الخدمة الوطنية تؤدي دورها بذات الكفاءة في عهد الرئيس ابراهيم عبود ولم يبدأ التدهور الا بعد ثورة أكتوبر 1964م واستمر التدهور على عهد الرئيس جعفر نميري (مايو 1969م) وبلغ ذروته على عهد الانقاذ (يونيو 1989م) والتي أبعدت اعداداً كبيرة من الخدمة باسم الصالح العام.
الاستاذ صلاح السيد طه من اعيان مدينة الابيض رجل اديب وشاعر وخطيب تهتز له المنابر، ساهم بفاعلية في الحركة الوطنية في الابيض وكان سكرتيرا عاما للحزب الوطني الاتحادي يحكي عن الزعيم الازهري قصة ذات مغزى.. يقول إنهم في الحزب الوطني الاتحادي طلبوا من السيد اسماعيل الازهري بوصفه رئيسا للوزراء في ذلك الوقت ان يعفي مدير المديرية ومقره الابيض من منصبه، ولعله كان الاداري المقتدر بلدو وذلك لانتمائه لحزب الأمة.. فغضب السيد اسماعيل الازهري لهذا الطلب.. وأوضح لهم بأنه لا ينبغي للسياسة ان تتدخل في الخدمة المدنية وان المعيار الوحيد للخدمة المدنية يجب ان يكون الكفاءة وليس الولاء الحزبي.
حكى لي عالم الفيزياء الراحل البروفيسور محجوب عبيد طه انه وفي نهاية الخمسينات من القرن الماضي حضر من القطينة مع شقيقته لعلاجها في مستشفى العيون بالخرطوم وبعد مقابلة الطبيب تقرر لها عملية بعد شهر من تاريخ المقابلة وذكر انه قبل اسبوعين من موعد العملية تسلم خطابا من المستشفى تذكرة وتأكيدا على موعد العملية مع بعض الارشادات وقائمة بالاشياء التي يجب ان تحضرها المريضة معها مثل ملابس النوم وفرشة للاسنان وغير ذلك من الاشياء التي لا يمكن للمرء ان يستغني عنها.
وعند الموعد المضروب حضر البروفيسور طه مع شقيقته ووجد المستشفى مستعدا لاستقبالها وأجريت العملية في موعدها وتكللت بالنجاح. هذا مثال بسيط لانضباط وكفاءة الخدمة المدنية قبل افسادها بتدخل السياسيين الذي بدأ بعد ثورة اكتوبر، ومن الانصاف ايضا لحكومة الفريق عبود انهم لم يتدخلوا كثيرا في الخدمة المدنية فحكى لي الأخ الدبلوماسي الكبير عمر يوسف بريدو بأنه تقدم للالتحاق بالسلك الدبلوماسي في عهد الفريق عبود وبعد مرحلة اجتيازه لكل الاختبارات التحريرية وفي مرحلة الاختبار الشفوي سئل سؤالا مباشرا حول انتمائه لجماعة الاخوان المسلمين فلم ينكر ذلك، اذ انه كان سكرتيرا لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ممثلا للاتجاه الاسلامي وكان اتحاد الطلاب يقود المعارضة ضد نظام عبود.. وبعد المعاينة كانت المفاجأة السارة ان تم استيعاب الأخ عمر بريدو في السلك الدبلوماسي ويشهد الجميع بتميز ادائه في الدبلوماسية السودانية، فهذا يدل على وعي حكومة الفريق عبود لدور الخدمة المدنية وتعزيزها بالمؤهلين حتى ولو كانوا من اعداء النظام.
عندما تفجرت ثورة اكتوبر 1964م رفع الشيوعيون شعار التطهير واجب وطني وزايدهم على ذلك الشعار كل القوى السياسية فتم فصل العديد من الكفاءات الممتازة من الخدمة المدنية وبدأت مسيرة التدهور الذي استمر في عهد مايو فأبعدت الكثير من الكفاءات النادرة ولم تنج جامعة الخرطوم من ذلك التدخل المدمر فتم فصل علماء اجلاء من امثال البروفيسور عبد الله الطيب والبروفيسور مدثر عبد الرحيم والبروفيسور دفع الله الترابي ود. يوسف سلفاب وغيرهم.
وفي عهد الانقاذ اصبح الولاء الحزبي الضيق هو المعيار، فتم فصل اعداد كبيرة من الاكفاء في كل مناحي الخدمة المدنية باسم الصالح العام واذا تحرينا الحقيقة فهو الطالح العام ولم تنج جامعة الخرطوم من هذه المهزلة، فتم فصل العديد من أكفاء الاساتذة منهم على سبيل المثال المرحوم د. عبد الجليل الذي أسس مدارس المنار التي اضافت الكثير للوطن في مجال التربية والتعليم برهانا على خطل سياسة الفصل من الخدمة لتصفية الحسابات الحزبية الضيقة.. والدكتورة فدوى عبد الرحمن استاذة التاريخ بكلية الآداب جامعة الخرطوم التي تؤدي واجبها على افضل وجه في التدريس وفي الاشراف على طلاب الدراسات العليا ولا ذنب لها الا انها تنتمي لأسرة ارتبطت بحزب الأمة فهي ابنة المربي الكبير عبد الرحمن علي طه أول وزير سوداني للمعارف (التربية والتعليم). كان الأمل كبيرا في اعادة المفصولين من الخدمة بعد توقيع اتفاقية السلام، ذلك ان روح الاتفاقية هي المصالحة وليس بين الشمال والجنوب ولكن بين الشمال والشمال ايضا، لان اتفاقية السلام تنص على ان السودان الجديد هو وطن لجميع السودانيين بمختلف معتقداتهم واعراقهم، فكان الاوجب ازالة الظلم والغبن وتصفية النفوس. ومن هذا المنطلق نشط الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى وزير الدولة بوزارة العمل لاعادة المحالين للصالح العام للخدمة، ولكنه واجه هجوما شديدا ظالما، فالرجل يؤدي عملا من صميم واجباته كوزير للعمل مسنودا باتفاقية السلام اما اتهامه بأنه شيوعي في ثياب الحركة الشعبية فذلك من سقط القول فهو قد انضم للحركة الشعبية عن قناعة.. كان لي شرف معرفة الرجل فقد زاملته في بريطانيا لمدة عام كامل وأعلم انه وطني من الطراز الأول وهو تجسيد للقول المأثور «الاختلاف لا يفسد للود قضية» وهو ابن الأكرمين، فوالده يوسف أحمد المصطفى.. كان سكرتيرا لاتحاد المزارعين ونسيبه الأمين محمد الأمين.. رئيس اتحاد المزارعين ووزير الصحة في حكومة اكتوبر الاولى.
كنت ارجو الا يؤثر ذلك الهجوم على جهود د. محمد يوسف ولكنه أُسكت وتوقفت جهوده لاعادة المفصولين عن العمل فليته يستأنف ما بدأه وعلى الحركة الشعبية ان تدعمه بقوة.. فالخدمة المدنية لن تستقيم حتى تضع الرجل المناسب في مكانه المناسب بغض النظر عن لونه السياسي او انتمائه العرقي والقبلي. تقرر أخيراً الغاء الفصل من الخدمة للصالح العام، فهل هذا القرار «حق أريد به حق» أم «حق أريد به باطل» ذلك ان كل المعارضين قد تم ابعادهم بالفعل وان المتبقي هم من انصار النظام وهذا القرار سيوفر لهم الحماية كما أشار الى ذلك وبذكاء شديد الاستاذ صلاح ابراهيم أحمد.
* اكاديمي سوداني