المصالحة الوطنية: حرث في بحر

TT

منذ ايام عقد في بغداد المؤتمر الثاني للمصالحة الوطنية للقوى السياسية، قبله عقدت عشرات المؤتمرات للمصالحة الوطنية داخل العراق وخارجه وبرعاية مختلفة سواء من الحكومة العراقية او القوى السياسية او الدول الفاعلة في الاقليم كالمملكة العربية السعودية والمنظمات الاقليمية كالجامعة العربية ومن العواصم المهمة في المجتمع الدولي وتعددت مستوياتها فمن مؤتمرات للقوى والشخصيات السياسية الى اخرى للعشائر الى اخرى لرجال الدين الى مؤتمرات لمؤسسات المجتمع المدني الى تلك التي ضمت الاوساط الثقافية واخرى للاكاديمية، ولم تبق عاصمة فاعلة او مهتمة في العالم لم تعقد مؤتمر مصالحة او ورشة عمل او تنظم زيارات للاطلاع وسعت اغلبها لاستجلاب اطراف عراقية للاطلاع على التجارب وقامت باحضار خبراء للحديث ونقل تجارب وخبرات الشعوب في موضوعة المصالحة، فمن القاهرة الى مكة الى اسطنبول الى انقرة الى عمان والبحر الميت الى بيروت الى باريس الى روما والبندقية وعدد من المدن الايطالية الى بروكسل الى المانيا الى قرب القطب في الدنمارك وهلسنكي ثم تعريجاً على الجانب الاقصى من العالم الى طوكيو في مؤتمر عقد العام الماضي واخر جاري عقده الان، ولم تبق تجربة مصالحة في العالم او تجربة حل نزاع اهلي عرفها عالمنا المعاصر الا وتم جلب قوى وشخصيات عراقية فاعلة للاطلاع عليها، من تجربة المانيا ما بعد سقوط جدار برلين الى تجارب دول المنظومة الاشتراكية السابقة الى نزاعات يوغسلافيا الى تجربة جنوب افريقيا ما بعد الفصل العنصري الى حل المسألة الايرلندية واطلاع وفود عراقية عديدة على ارث التخاصم بين الكاثوليك والبروتستانت وجدران الفصل بينهما في بلفاست.

رغم كل هذه الجهود الطائلة والوقت والاموال والتجارب التي وظفت الا انها لم تنجح في دفع مسألة المصالحة الوطنية خطوة واحدة او في ان تحقق اي تقدم يعتد به فبقيت شقة الخلاف بين القوى السياسية والمتصارعة كحالها الذي كانت عليه عند يومها الاول هذا ان لم تتسع، فدراسة الجدوى للمصالحة يجب ان تتجه اولاً الى السؤال المهم وهو المصالحة مع من، ثم ما اثر ذلك ؟ الجواب الطبيعي ان المصالحة يجب ان تكون مع القوى السياسية ومع الجماعات المسلحة، القوى السياسية تنقسم هنا الى تلك التي في العملية السياسية والاخرى التي هي خارجها، الاولى والتي هي الاكبر في المشهد السياسي، الا ان اشتراكها في السلطة سواء في الحكومة او المعارضة وكونها ممثلة في البرلمان وتشكل كتلا فاعلة فيه وكذلك هي حاضرة في المجالس المنتخبة الادنى الا ان اندراجها وانخراطها هذا في العملية السياسية لم يقلل من الخصومة بينها ويجعلها تستفاد من الفضاءات الديمقراطية وتحتكم الى قواعدها بل يلحظ ان التنافر والتناكف والثقة المعدومة بينها تكاد تكون هي الاكثر ضراوة في المشهد العراقي، فموقفها من المصالحة هو استمرار لمواقفها الرافضة لمنهج الحكومة واسلوب ادائها، فهي اولاً لا تريد ان تساعد حكومة لا تثق بها ولا تريد ان تجير نجاحاً لسجلها، وثانياً لا ترى جدية وصدقية في وعودها، وثالثاً لا تراها تصلح ان تكون طرفاً راعياً اذ تلح على الراعي الاقليمي او الدولي لضمانة مراقبة التنفيذ وتضمن ان تكون مع الحكومة على كفة المساواة وللخروج بصفقة تسويات مفروضة تخدمها.

وبالتالي فأي جهد لاحداث المصالحة بين القوى المتعارضة المشتركة في العملية السياسية تكفي السنين الماضية على البرهنة بانه حرث في بحر، ولا يؤمل او ينتظر اي تقارب قبل موعد الانتخابات العامة القادمة علها تأتي بقوى واصطفافات تغير المشهد الحالي وتأتي باخر يمتلك حدا من الانسجام . اما تلك القوى التي هي خارج العملية السياسية فهي بلا شك رغم المطالب التي تقدمها والتي ظاهرها العموم والوطنية الا انها ايضاً في النهاية ليست جهة متبرعة او تشكل لمجموعة باحثين او مثقفين يجتهدون في ايجاد الحلول، اذ الاهم بالنسبة لهم هو الحصول على حصة من السلطة عبر المشاركة، وهذه من الناحية العملية لا تتم الا من خلال الاطر الديمقراطية والتي لا تتيحها الان لذا فانهم سيظلون عند تخوم الانتظار حتى الانتخابات القادمة بشقيها المحلي في نهاية العام والوطني في نهاية العام القادم.

اما الجماعات المسلحة فان اي تفكير منطقي للمصالحة لابد ان يجتهد للتصالح مع الجماعات المسلحة التي عند التصالح معها ينتهي العنف او ينخفض الى مستوياته الدنيا، هذه القوة بلا شك هي تنظيم القاعدة، والتي هي لا في منهجها او اهدافها او متبناياتها التفكير بالمصالحة او المهادنة ولا الحكومة من جهتها تستطيع ان تلاقي اي من مطالبها هذا اذا كانت لها مطالب قابلة للتلبية. من هنا لا بد ان يستخلص ان مفهوم وقضية المصالحة اذ لم يرد لها ان تكون حملة علاقات عامة او اسقاطاً للفرض او استجابة للضغط الاجنبي يجب ان تذهب الى الارشيف وان يتجه بدلاً بالجهود من اجل المصالحة المجتمعية ويترك السياسيين والرافضين جانباً، ويركز على ملفين ملحين الاول ينجحها مجتمعياً والثاني على صعيد كبح العنف، وهما ملفا المهجرين والصحوة فلو استطاعت الحكومة، وهنا عدم استطاعتها بات معيباً ان تعيد المهجرين الى مساكنهم فعند ذاك تعود اللحمة المجتمعية التي حاول المسلحون من كلا الجانبين تمزيقها لافراغ مناطقهم من الاخر المغاير فتنمو مشتركات الامن والاستقرار ومصلحة الدفاع الجمعي عنها، وهذا هو مفتاح حل المشكل الطائفي وتداعياته العنفية، والثاني استثمار ظاهرة الصحوة كونها مثلت قصة النجاح الوحيدة بعيداً عن ضجيج السياسيين وخصوماتهم المزمنة.