إذا كان وأد البنات من شيم عصر الجاهلية في الجزيرة العربية فشيمة ساسة لبنان، في القرن الحادي والعشرين، «وأد الأوطان».
غريب أمر معظم ساسة لبنان. بلدهم أصبح محللاً للوأد ولا يقلق على مصيره سوى المواطن العادي المثقل بهموم العيش وغموص المستقبل... والقلة القليلة من ذوي الرؤية النافذة من أقطاب «إدارة الأزمة».
إذا طلبت من بعض مفاتيح الأزمة السياسية في لبنان أن يبلغوك ـ بعيداً عن التنظير الإعلامي العلني ـ الى أين هم سائرون، لا يترددون كثيراً في الاعتراف بأنهم، هم أيضاً، لا يعرفون... ومع ذلك يسيرون في عملية نقل لبنان من حالة الدولة المعطلة الى الدولة المشلولة الى «اللادولة»... في مستقبل لا يبدو بعيداً.
في لبنان اليوم بات الأسوأ من «المربعات الأمنية» ـ المفترض أن تقي السياسيين من «حضار» الاغتيالات ـ تلك «المربعات السياسية» التي يتمترس الساسة وراءها ليمارسوا رياضة القنص الكلامي على مواقع بعضهم البعض، غير آبهين بأن رصاصها الطائش قد يقضي على آخر فرصة لحوار جدّي حول نقل لبنان من كيان جغرافي ألزمنا به اتفاق سايكس ـ بيكو الى كيان عيش، لا تعايش، مشترك يقوم على حصص مواطنة متساوية بين أبنائه تتخطى الحسابات المذهبية الضيّقة... والتحولات الديمغرافية في هذه المحافظة أو ذلك القضاء.
في أحسن حالاته يبدو لبنان اليوم، للعائد إليه بعد سنة غياب واحدة، مشروع «خصخصة» طوائفية يحفظ لكل طائفة من طوائفه الرئيسية نطاق نفوذ خاص داخل الكيان الواحد... وفي أسوأ حالاته مشروع فدرالية طوائف لا يزال التصارع جارياً على حدود كانتوناتها.
هل هو مخطط مدروس أم امتحان مصيري لإرادة العيش المشترك لدى اللبنانيين... أم بعض هذا أو ذاك في أجواء منعطف تاريخي مجحف بحق الدول الصغرى والمستضعفة؟
كأننا ما كان السبب، لبنان متروك اليوم في مهب رياح إقليمية عاتية تتصادم مع رياح دولية أعتى لتولّد داخل الشارع اللبناني أعاصير يصعب التكهن بقدرة الوطن الصغير على تحمّل تداعياتها دون انفجار داخلي مدوٍ.
ومع ذلك، قد يكون من المكابرة حصر أزمة لبنان بمشكلته السياسية فقط، فأزمته الحقيقية لا تزال اقتصادية ـ إن لم تكن معيشية ـ بالدرجة الأولى.
وإذا كان من الطبيعي الافتراض أن يؤدي ملء الفراغ الرئاسي الى إعادة الهيبة الى مؤسسة الدولة، فمن الصعب التوقع بأن تعيد الاستقرار السياسي والاجتماعي الى لبنان قبل معالجة مشكلة مديونيته التي تتفاقم باطراد، وأوضاعه المعيشية التي تتردى باستمرار... ما يجعل أزمته السياسية مجرّد تفضيل في أزمة أشمل وأعمّ.
ولكن للعامل السياسي أولوية غير واقعية في حسابات اللبنانيين وتحركاتهم ـ أولوية دفعوا ثمنها غالياً في تفويتهم مكاسب الفورة النفطية، في السبعينات والثمانينات، «لتلهيهم» بحرب أهلية عبثية وفي تفويتهم اليوم خيّرات الفورة المالية في أسعار النفط لتلهيهم بجدل عقيم حول «وزير بالزائد ووزير بالناقص».
لذلك، ومع التسليم بأن يعيد انتخاب الرئيس هيبة الدولة المفقودة في لبنان، يبقى حل أزمته السياسية، على أهميته، مجرد مدخول للتسوية... لا صيغة لحل دائم «للمعضلة اللبنانية» المعقدة.