انشغلت عناوين الصفحات الأولى للصحف الدولية والعربية في اليومين الماضيين بالحديث عن مفاعل سورية النووي، فهل فعلا لدى سورية مفاعل نووي؟ هل يمكن إثبات ذلك بشكل قاطع؟ وهل الكوريون الشماليون هم الذين بنوا المفاعل المفترض؟ في هذه القصة المعقدة تقنيا لا بد أن نفرق بين ما هو حقيقة يؤكدها العلم، وما هو تسريبات صحافية تهدف إلى الدعاية السياسية التي تسبق الحروب. فالحقائق المستندة إلى الأدلة شيء والدعاية المدفوعة بأغراض سياسية شيء آخر.
بداية القصة كانت الضربة الإسرائيلية لموقع سوري على بعد عشرة كيلومترات شمال قرية التبنة في منطقة دير الزور، في السادس من سبتمبر العام الماضي. الغموض الذي أحاط بالعملية وما نتج عنها طوال كل هذه الفترة، ومن ثم خروج الصور إلى العلن من واشنطن وليس من إسرائيل بعد سبعة أشهر تقريبا، هو أمر يزيد من تعقيد الموقف ويطرح شكوكا حول ما إذا كانت الدوافع في هذا الموضوع، سياسية أم قائمة على أدلة علمية. وهنا لا أشكك في رواية أي طرف، ولكن لا بد من تمحيص الأدلة حتى نهتدي، إن استطعنا، إلى الحقيقة.
الصور الجوية للموقع السوري قبل الاعتداء عليه، اطلع عليها خبراء من وكالة الطاقة الذرية، ولم يقتنعوا بأن يكون الموقع هو موقع مفاعل نووي، وكانت أسبابهم كثيرة، ولعل أكثرها بديهية، أنه لا يوجد أي شكل من أشكال الحماية حول الموقع. أما الباحثون الأميركيون في الشأن النووي، من أمثال ديفيد البرايت من المعهد الدولي للعلوم والأمن الدولي، فقالوا بأن سقفا يغطي المكان مما يصعب قراءة الصور بشكل واضح، ولكن ليس هناك دليل مقنع بأن المفاعل كوري الصنع. أي أن الأميركيين في تلك الفترة لم يحسموا الأمر في قصة المفاعل، مثلهم في ذلك مثل خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الصور المعروضة للبحث كانت لمبنى بدئ العمل فيه في مايو 2001 إلى سبتمبر 2002. والصور لم تظهر أي نوع من التقدم في بناء وتطوير المبنى منذ ذلك التاريخ حتى عام 2007. كما أن خبراء الاستخبارات الأميركية الذين فحصوا هذه الصور بعناية فائقة لم يروا ب
أن هذا المبنى يمثل خطرا نوويا.
أما مسألة ربط المبنى بكوريا الشمالية فهي تبدو أصعب على التصديق من قصة المفاعل النووي بحد ذاته. فالمفاعلات النووية الكورية مصممة بطريقة المفاعلات البريطانية في خمسينيات القرن الماضي، ويمكن معرفتها بسهولة. والمبنى السوري، على الأقل في صور الأقمار الصناعية، لا يشبه هذا النوع من التصميمات. والدليل الوحيد الذي ربط كوريا الشمالية بالموقع السوري، كان تقريرا صحافيا غير مؤكد بأن عاملا كوريا قد قتل أثناء الغارة الإسرائيلية على الموقع المذكور.. ولكن من هو هذا الشخص ومن هي عائلته؟ لم نعرف ذلك حتى هذه اللحظة. وكانت هناك بعض التخمينات حول زيارة مسؤول من قيادات حزب البعث السوري إلى كوريا الشمالية بعد الغارة، التي فسرها الإعلام في الغرب، بأنها لقاء تشاوري حول مستقبل «المفاعل»، وقدمت الزيارة على أنها دليل على التعاون السوري الكوري في المجال النووي.
بالطبع بين سورية وكوريا الشمالية علاقات ودية وتعاون. فمنذ عام 1991 باعت كوريا لسورية صواريخ من طراز Scud- C، وصواريخ من طراز Scud- D، وكان هناك خبراء كوريون في دمشق يعملون لخدمات تقنية تخص هذه الصواريخ، كما كان في السابق خبراء الاتحاد السوفيتي يملأون العالم العربي. ولكن جذور القصة النووية الجديدة تعود إلى أن أشخاصا، مثل جون بولتون سفير الولايات المتحدة السابق في الأمم المتحدة، خوفوا المجتمع الدولي بفرضية تقول ان كوريا الشمالية تخزن بعضا من المواد النووية في سورية، حتى يتم التحايل عليها في المفاوضات بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، التي عرفت بالمفاوضات السداسية.
ورغم كل هذا اللغط، إلا أن تاريخ تعامل سورية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوحي بالثقة والاطمئنان. فسورية دولة عضو في وكالة الطاقة منذ عام 1963، كما أنها وقعت على معاهدة عدم انتشار الأسلحة عام 1968، وصدقت عليها عام 1969، كما وقعت عام 1987 على اتفاق الإنذار المبكر عن الحوادث النووية.
وعندما احتاجت سورية إلى بديل للكهرباء، اتصلت بوكالة الطاقة لتساعدها في إعداد دراسة حول إمكانية استخدام الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء. ودارت وقتها نقاشات بين دمشق والوكالة، أثمرت عن وضع خطة لبناء ست مولدات بقدرة 600 ميغاوات للوحدة تنتهي بنهاية التسعينيات من القرن الماضي.. وبقيت مجرد خطة.
وتحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، توجد في سورية معامل نووية للبحث والتدريب في منطقة دير الحجار بالتعاون مع الصين. كما شاركت سورية في دراسات الوكالة الدولية وبرنامجها الإقليمي في الفترة من 2002 إلى عام 2006.
الدول ذات النوايا السيئة والتي لديها برنامج سري للمفاعلات النووية لا تتعاون مع الوكالة بهذه الطريقة. ويجب ألا يغيب عن الأذهان أنه حتى لو أرادت سورية الالتفاف على اتفاقاتها والتزاماتها مع الوكالة الدولية للطاقة، فإنها بلا شك لا تمتلك في المدى المنظور، التكنولوجيا أو المهارات البشرية التي قد تصل بها إلى مستوى تطوير الأسلحة النووية.
يمكن تفسير تسريب الصور الخاصة بالمفاعل السوري في هذا التوقيت على أنه ضغط على إسرائيل حتى لا تدخل في حوار سلام مع سورية، فالولايات المتحدة لا تريد لسلام سوري ـ إسرائيلي أن يتم من دون أن تقدم سورية ضمانتها للأميركيين في قضايا إقليمية متعددة تهم الأميركان، كالملفين العراقي واللبناني. كما يمكن تفسير تسريب الصور أيضا على أنه وسيلة للضغط على كوريا الشمالية في المفاوضات السداسية النهائية، هذان تفسيران مقبولان. أما ما لا يوجد دليل قاطع عليه، فهو وجود مفاعلات نووية سورية. فسورية ليست لديها الخبرة ولا الإمكانات التقنية، وربما ليست لديها الرغبة في الدخول في اللعبة النووية.
من المفهوم أن سورية تسعى إلى توازن عسكري مع إسرائيل. ولكن التسلح النووي ليس مهما في حرب بين بلدان متلاصقة مثل سورية واسرائيل. ولا أظنه يشكل هاجسا للسوريين. التسلح العسكري التقليدي هو الذي يحكم المعادلة. وهذا ما فعلته سورية في صفقة الصواريخ الباليستية الكورية.
مهما اختلفنا أو اتفقنا مع سورية، يجب ألا ننخرط في اللعبة التي تدخلنا في موضوع هل سورية عندها أو ليس عندها مفاعلات. فالمفاعل النووي، إن ثبت وجوده، هو خرق لبند في اتفاق دولي. أما أن تنتهك دولة سيادة دولة أخرى بضرب أراضيها عن طريق السلاح الجوي، كما فعلت القوة العسكرية الإسرائيلية باختراق الأجواء السورية، فهذا خرق للسلام والأمن الدوليين. علينا أن نرغم العالم على الحديث عن هذا الخرق للقانون الدولي بالمعلومات والحقائق لا بالشعارات التي لا يفهمها العالم، لا أن يلهينا الآخرون بقضية فرعية. إلا إذا قبلنا بأن مسألة الانتشار النووي أكثر خطورة على الأمن والسلم العالميين من أن تعتدي دولة على سيادة دولة أخرى.