كنا في مطلع السبعينات، مجموعةً من المتخصصين في فنون الإعلام، متقاربةً في سنوات التخرج، ودول الخليج حديثة العهد بالتنمية الإعلامية، تسبقها أرامكو بمحطة التلفزيون الرائدة، وتنافسها الكويت بصحافتها المزدهرة وبإذاعتها ومحطة التلفزيون فيها، وتعتز البحرين بإذاعتها القديمة المنزوية، منذ إنشائها عام 1955م.
وكنت في مرحلة الدكتوراه في أمريكا (1971م)، أرقب نموذجين متقدمين في العالم من البث الإقليمي المشترك: «نورد فيزيون» (أو تلفزيون الشمال) بين خمس من الدول الاسكندنافية، و«مغربفيزيون» بين تونس والمغرب والجزائر، وكان برنامج الأطفال الأمريكي «افتح يا سمسم» – الذي اشتُق اسمه من التراث العربي ـ يلفت الأنظار وهو يشق طريقه لغزو ثقافات الشعوب، بوصفه أسلوباً رائداً في الجمع بين التسلية والتربية والمعارف، ويحظى بالعديد من الدراسات التربوية والإعلامية الفاحصة، تُنشر نتائجها في دوريّات تلك الأيام.
أفرغت بعض ما كنت أشاهده من مظاهر التميّز في أمريكا وأوروبا واليابان في شكل آمال وأهداف ـ في أطروحة الدكتوراه ـ لتطوير إعلامنا السعودي بخاصة، والخليجي بعامة، وأشعر أن كلاً من أفراد تلك المجموعة تحمل أفكاراً متقاربة للتحديث والتجديد.
لم يكن بين دول الخليج حتى عام (1973م) من صور التنسيق الإعلامي سوى مكتب إقليمي صغير في البحرين تابع لاتحاد الاتصالات الدولي (I.T.U) لتنسيق الطيف التردّدي في المنطقة.
جاءت المبادرة من قطر في ذلك العام، لاختيار نظام موحّد للبث الملوّن في اجتماع قصير لم يتطلب سوى ساعة واحدة، لكنها كانت فرصة لعهدٍ من التعارف بين ذلك الجيل من إعلاميي السبعينات الخليجيين، من أمثال: محمود الشريف (رحمه الله) في قطر، وعيسى بن محمد آل خليفة (من البحرين)، ومحمد السنعوسي ورضا الفيلي (من الكويت)، وراشد عبد الله النعيمي وعبد الله النويس (من الإمارات)، وكاتب هذه السطور من السعودية، هذا بالإضافة إلى شباب متوثب من سلطنة عمان يستعد لاقتحام ميادين الإعلام في حقبة عمانية سياسية جديدة.
انتهزنا الفرصة لإطلاق تعاون إعلامي بين المنظومة الخليجية، كان التلفزيون محورها الأساس، لكنه تعاون بدأ في التوسع ليشمل ميادين الإعلام كافة، فاقترحت المملكة العربية السعودية على لقاء قطر (الخاطف) أن يكون الاجتماع دورياً وأن يعقد في عامه المقبل (1974م) في الرياض تحت عنوان «التنسيق التلفزيوني»، وكان أن تقدمت بدراستين من إعداد اليونسكو عرضها حمدي قنديل ومجموعة معه، لتبنّي إنتاج «افتح يا سمسم» مشترك، ولإقامة نواة لتلفزيون الخليج يضاهي «نوردفيزون» و«مغربفيزيون»، وذلك لما لدول منطقتنا هذه من خصائص جغرافية وثقافية وسياسية متشابهة، وجاءت الكويت بفكرة إنشاء مؤسسة للإنتاج المشترك، والتقينا (عام 1975م) في البحرين حيث أقرّت تلك الأفكار جميعاً.
أما في اجتماع أبوظبي (عام 1976م)، فقد شهد تأسيس مؤتمر وزراء الإعلام في دول الخليج، الذي انضم إليه العراق بحضور طارق عزيز وزير الإعلام آنذاك، فكانت تلك الاجتماعات الأربعة بمثابة ركائز تأسيسية، لما شهدته المنطقة من حراك إعلامي لأكثر من ثلاثة عقود لاحقة.
خلال تلك العقود، انضم العراق ثم انفصل، وتراجع الإعلام الكويتي كميّاً ونوعياً من أثر الاحتلال، وازدهرت الصنعة الإعلامية في دبي بشكل اجتذب عشرات القنوات الفضائية، وظهرت قناة «الجزيرة» بما لها وبما عليها، وتحرّك الإعلام السعودي داخليُّه ومهاجره نحو مزيد من الانفتاح، واقتحم الرأسمال الخاص ـ بقوة ـ ميادين الإعلام والإعلان، وأصبح لهذه المنطقة ثقلٌ غيرُ مسبوق في السوق الإعلامية الدولية، لا تكاد تضاهيه منطقة أخرى في العالم، وتوارى الإعلام الرسمي خلف وهج وسائل الإعلام الأهلية، اللّهم باستثناء قنوات تلفزيونية وإذاعية قبلت التحدي وخاضت المنافسة من أبوظبي ودبي، حتى صرت لا تفرق بينها من جهة، وبين الـ«إم بي سي» (M.B.C) و«العربية» التجاريتين من جهة أخرى، تصدران عن دولة واحدة وتجمع بينها نسبة عالية من الاحتراف والتحرر من قيود البيروقراطية الإدارية.
وفي الوقت نفسه، تجاوزت المنطقة نموذج مؤسسة الإنتاج الإعلامي المشترك، وصار لتلفزيون الخليج دور هامشي، وانحسر التنسيق بين ما تبقى من وزارات الإعلام الخليجية.
واليوم، يقف الإعلام الخليجي دماً شاباً، متدفقاً بالحيوية، شاهداً على عصر من العولمة الإعلامية والاقتصادية، فاق سبعينات هوليوود ونيويورك، وتخطّى أسطورة «سي إن إن» (C.N.N)، حيث وقف المراسل العربي جنباً إلى جنب المراسل الغربي في خطوط المواجهات والتماس في المناطق الأسخن في العالم، ثم لحظنا كيف ظهرت نماذج مثل (أمريكا الحرة، وفرنسا 24، وروسيا اليوم، والبي بي سي B.B.C العربية) تلهث وراء النموذج العربي للقنوات الإخبارية وتنقل عنها، بينما بقيت الإذاعات الرسمية ووكالات الأنباء إلى حد كبير على رتابتها.
من هنا، أدعو باسم جيل السبعينات من الإعلاميين، أن نقف اليوم وقفة تأمل لاستشراف المستقبل الإعلامي لهذه المنطقة بعد تلك التحوّلات، ولمراجعة القوالب القديمة التي عفا عليها الزمن، ولرفع درجة الاحتراف في إعلامنا الرسمي، ولدفع الحكومات للتخلي قدر أقصى المستطاع عن مفاهيم الاحتكار، إنها دعوة للبحث في أزمة الإعلام الرسمي العربي ومؤسساته بعامة، بين ثالوث الاستقلالية والانفتاح والاحتراف.
أما تكريمكم لنا في هذه المناسبة، فإنني باسم جيل السبعينات، وباسم المكرّمين جميعاً نعبرّ عن اعتزازنا البالغ به، ويسرنا أن نجيّره إلى روحي الراحلين الكريمين طارق المؤيد وإبراهيم العنقري اللذين بدأ هذا النشاط في عهديهما، وتركا بصمات مشهودة من التطوير على إعلام الخليج بقيت آثارها إلى اليوم.
* إعلامي سعودي
* المقال هو كلمة الكاتب بمناسبة انعقاد مهرجان الخليج العاشر للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني ـ البحرين