حين زارني أحد الشيوخ اليمنيين، وأبلغني بأنه قرر الإقامة في القاهرة، لأنه أدرك أن حياته مهددة في صنعاء، اعتبرته مبالغاً ومفرطاً في سوء الظن، وسألته عما إذا كانت له علاقة مع «الحوثيين» المشتبكين مع السلطة في الشمال، فقال إنه كان عضواً في وفد الوساطة والمصالحة بينهم وبين الحكومة، وأنه لا علاقة له بهم، لكنه يعارض سياسة الحكومة إزاءهم، خصوصاً إصرارها على استخدام السلاح لقمعهم وإخضاعهم.
رويت القصة لأحد المثقفين اليمنيين البارزين، حين التقيته في دبي أخيراً، فقال إن هذه حالة استثنائية لكنها غير مستغربة، لأن الأجواء السائدة في صنعاء تحتمل صور تهديدات أو إثارة مخاوف من هذا القبيل، لأن الأجهزة الأمنية حين تطلق يدها في أي مجتمع لا تحتكم إلى القانون ولا دور فيه للمؤسسات، فإن الأبواب تصبح مفتوحة على مصارعها لكل ما يخطر على البال من ممارسات تتراوح بين الاعتقال والتعذيب وبين التصفية الجسدية، وتمر بمصادرة حرية التعبير وتلفيق التهم وفرض الغرامات الباهظة. وأضاف محدثي أن اليمن يعيش أزمة الأنظمة العربية التي جرى تأبيد السلطة فيها واحتكارها من جانب أطراف بذاتها، الأمر الذي أدى إلى جمود أوضاعها وتدهورها. ويتميز اليمن بوضع خاص بين هذه الدول، ذلك أن موقعه الجغرافي جعله بعيداً عن دائرة الضوء، الأمر الذي سهل عملية التعتيم على ما يجري هناك، ومن ثم إخراجه من دائرة الاهتمام العربي. وحين استمر هذا الوضع لمدة ثلاثين عاماً، فإن حصيلة التراكمات أصبحت مثيرة للقلق ومنذرة بتطورات ومفاجآت لا يعلم مداها إلا الله.
تابعت في وقت لاحق احتفالاً أقيم في صنعاء بمناسبة يوم الديمقراطية (الأحد 27/4) وقرأت أن ذلك الاحتفال جاء رداً على ضغوط قوى المعارضة التي تزايدت في الآونة الأخيرة، وعبرت عن نفسها بتنظيم العديد من التظاهرات والاعتصامات. لكن أحداث يوم الديمقراطية لم تكن مبهجة بأي حال، إذ فضلاً عن الأجواء الأمنية المشددة المخيمة على العاصمة، فإن الشمال شهد جولة جديدة في تصفية الحسابات بين الحوثيين والسلطة، كما أن الجنوب كان يزداد احتقاناً وغضباً، وحين تابعت على الخريطة مواقع التوتر، اكتشفت أن آثاره امتدت إلى طول البلاد وعرضها، من الشمال إلى الوسط والجنوب. وحين تقدمت خطوات أخرى في البحث والتقصي اكتشفت شيئاً آخر هو أن اليمن الذي نقرأ أخباره في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية يختلف عن اليمن الذي يطالعنا على مواقع الإنترنت، وأن المسكوت عنه من أخبار اليمن أضعاف المعلن والمعلوم.
استوقفني في المواقع اليمنية خبر لم أجد له أثراً في الصحافة العربية، تحدث عن محاكمة فنان الشعب فهد القرني، الذي تم اختطافه في مدينة تعز واتهامه بـ«إثارة النعرات الطائفية والمناطقية، وبث روح الشقاق بين المجتمع، وتحريضه علناً على ازدراء طائفة من الناس، وتغليب طائفة بقصد تكدير السلم العام..». ورغم أنني لم أسمع بفهد القرني، إلا أنني وجدت أن محاكمة فنان كبير ـ أو حتى متوسط ـ في أي مجتمع، لمجرد أنه قال كلاماً لم يعجب الحكومة تدل على أن السلطة فقدت أعصابها، وأن الأجهزة الأمنية دخلت في طور ملاحقة الناقدين والمعارضين، وذلك مما يشوه صورة النظام ويخصم من رصيده.
لكن أكثر ما أثار انتباهي هو كم الأخبار والمعلومات والتعليقات التي تحدثت عن أوضاع الجنوب، الذي اتحد مع الشمال عام 1994، أي منذ حوالي خمسة عشر عاماً. صحيح أن مشكلات الشمال حاضرة في الإعلام العربي، خصوصاً بعدما تفجر الصراع بين الحوثيين والسلطة عام 2004، ولكن ذلك الحضور أسهم فيه عاملان؛ أولهما أن الصدام اتخذ طابعاً مسلحاً أسفر عنه سقوط أعداد كبيرة من القتلى، واستخدمت فيه السلطة طائراتها النفاثة وصواريخها، التي هدمت مئات البيوت وأشاعت الخراب في بعض أنحاء محافظة صعدة. السبب الثاني أن الصدام تجاوز الحدود وتحول إلى قضية إقليمية بعد الوساطة التي قامت بها دولة قطر بين الطرفين، وأدت إلى عقد جولات من المفاوضات بينهما.
قضية الجنوب لا تزال تعالج في حدود النطاق المحلي، فأحزاب المعارضة التي يضمها اللقاء المشترك تسعى لاحتواء المشكلة، من خلال الضغط المستمر على السلطة لكي تجد حلولاً سلمية لعناوينها. ولكن يبدو أن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج عملية تمتص غضب الجنوبيين. ومن الواضح أيضاً أن أجواء الإحباط والاحتجاج في الجنوب تسارعت خلال الأشهر الماضية حتى بدأت تعبر عن نفسها بسلسلة من الإضرابات والاعتصامات والتهديدات التي أدت إلى الاشتباك مع قوات الشرطة، الأمر الذي أسفر عن مقتل 13 شخصاً واعتقال 200 شخص خلال العام الأخير.
حين حاولت أن أتتبع أصول المشكلة في الجنوب واستكملت مطالعاتي لمواقع الإنترنت بحوارات أجريتها مع مَنْ أعرف من الأصدقاء اليمنيين، وجدت أن شقاً منها يتصل بالوضع العام في البلد، وأن شقا آخر يخص محافظات الجنوب الست، التي كانت دولة مستقلة منذ خروج الاحتلال البريطاني عام 1967 وحتى عام 1994 الذي تحققت فيه وحدة الشمال والجنوب. وثمة تداخل بين الشقين لأن مشكلة الاستئثار بالسلطة والثروة مثلاً لها مظهرها في الشمال، في حين أنها اكتسبت مظهراً آخر في الجنوب، الذي تركز على ثروة النفط والغاز. وبالتالي فإن الشكوى من استشراء الفساد، الذي شكلت الحكومة لجنة لمحاربته كان لها طابعها في الشمال، واتخذت طابعاً آخرَ أوسعَ نطاقاً في الجنوب. أما مشكلة تعاظم دور الأجهزة الأمنية وتغليب الأمن على السياسي إلى حد تحكم الأول في الثاني فهي بدورها مشكلة عامة شمالية وجنوبية في آنٍ واحدٍ.
المشكلة الأبرز التي يعاني منها الجنوبيون هي «الإقصاء» تليها مباشرة مشكلة استنزاف ثروات الجنوب وحرمان أهله منها، وهو شكل آخر من أشكال الإقصاء. والكتابات التي تحفل بها مواقع الإنترنت أجمعت على أنه في ظل الوحدة، فإن الجنوبيين ذابوا في الشمال ولم يصبحوا شركاء في إدارة دولة الوحدة. فقد أخرجوا من الجيش ومن الجهاز الإداري والسفارات «يقولون إنه في عام 94 كان لهم 93 سفيراً بقي منهم ثلاثة فقط»، وتقلص حضورهم في الحكومة التي يرأسها جنوبي عادة، لكنه لا حول له ولا قوة ويعمل بتوجيهات الرئيس. أما الوزراء فالجنوبيون عددهم ثلاثة من بين ثلاثين وزيراً. وحتى المحافظون الستة كلهم من الشمال ولا أحد منهم من الجنوب. ويقولون أيضاً إن ثروة الجنوب استولت عليها شركات أسسها أبناء كبار المسؤولين في الشمال، ولديهم معلومات تفصيلية بقوائم الأشخاص وشركاتهم وأرباحهم.
هذه الممارسات دفعت قيادياً جنوبياً سابقاً هو السيد حيدر أبو بكر العطاس الذي كان رئيساً سابقاً للوزراء، لأن يكتب مقالاً احتجاجياً حاداً بثه موقع «عدن برس» عنوانه «أوقفوا هذا العبث اللا وحدوي بالجنوب» (نشر في 20/4/2008) حذر فيه من تفاقم الوضع في الجنوب، وقال إن سياسة القمع والحروب الأهلية من شأنها أن تدفع البلادَ والعبادَ إلى مصير مجهول، قد يكرر تجربة الرئيس الصومالي الأسبق سياد بري الذي رفع شعار عليَّ وعلى أعدائي، ودمر بلاده جراء ذلك.
من الكتابات التي وقعت عليها والآراء التي سمعتها، وجدت إجماعاً على أنه لا سبيل لتجاوز الأزمة إلا بالاعتراف بالمشكلات والجلوس إلى طاولة الحوار لحلها، لكن أغلب الذين تحدثت إليهم لا يعولون على حوار يشترك فيها الطرفان وحدهما «السلطة والمعارضة» لأنهم لم يعودوا يثقون بنجاح وجدوى حوار من ذلك القبيل. لذلك، فإنه يطالبون بإشراك طرف ثالث فيه إقليمي أو دولي ليكون شاهداً وضامناً على غرار ما حدث مع مشكلة الحوثيين التي تدخلَ القطريُّونَ لحلها. أخشى ما أخشاه إذا ما تأخر ذلك الحوار الوطني المنشود، واستمرت الأوضاع الراهنة كما هي، أن تزداد الأوضاع في الجنوب تفاقماً، وأن تتعالى أصوات الذين لا يرون حلاً لمشكلتهم سوى الانفصال والعودة إلى أوضاع ما قبل عام 1994، وهو مصير مفجع ليس لدولة الوحدة فحسب، وإنما للجنوب أيضاً الذي تختلف فيه الرؤى بين النخب في حضرموت والضالع وعدن وأبين... الخ، الأمر الذي يصبح في ظله نموذجُ الصومالِ احتمالاً وارداً، وليس فقط مجرد كابوس يلوح في الأفق البعيد.