جرت العادة لدى مؤرخي الشيعة ترقيم الأعلام المتحاكين في شأن من الشؤون: المحقق الأول (جعفر الحلي، ت: 1533 م)، والمحقق الثاني (نور الدين الكَركي، ت: 1277 م). الشهيد الأول (محمد بن مكي، قتل: 1384م)، والشهيد الثاني (زين الدين العاملي، قُتل: 1558). وحاضراً ما نجده في: الصدر الأول، والثاني، والثالث. وقد قرأت كتابيّ: «الصَدْر الثاني...»، و«صَدْر العراق الثالث»، خصوصاً: صادق الصَدرْ (أغتيل 1999) ونجله مقتدى. أما الصَدْر الأول (أُعدم 1980) فمَنْ هو ليس من أتباع الأخيرين يسميه باسمه! وعَبَاءَته هي المقصودة في المقال. هذا، ولا يحصر الترقيم بطائفة، فقد رُقمَ الفارابي (ت 339 هـ) بالمعلم الثاني، تعظيماً له أن يكون والأول أرسطو في متوالية، وله ذاك. لا يخدش إعجابي بشخص آية الله محمد باقر الصدر أي اختلاف في الفكر والرؤية، كان دؤوباً في المعرفة، شديد النزاهة. يفترش حصيراً ويشرب من كوز، والقول للجواهري في المعري (ت 449هـ)، وكان كذلك: «على حصير.. وكوُز الماء يَرفده... وذِهنه.. ورفوفُ تَحمل الكتبا». وتكرس لديَّ هذا الاعجاب بعد لقاءات بنجله الثلاثيني محمد جعفر الصَدْر، المتعالي على الظهور في المرئيات والمقروءات، والزاهد بالمغريات، وهو يرى الشريف والوضيع يتقدم باسم أبيه، ومثله لا يحتاج سوى التلويح للهاتفين بعمامته السوداء، التي يُخيل لي أنه فارقها احتجاجاً، على ما حصل من مهازل.
لا يريد الابن أن يصبح رقماً، بقدر ما يحاول الاحتفاظ بعصامية والده، واعتدال خاله موسى الصَدْر (غُيب 1978). هذا، ويحق للاهفين على الجاه أن يأخذهم العجب من شاب، مؤصل من فرقدين، لا يطلب جاهاً بأبوة أو خؤولة. لم ألجأ إلى التبسط في أحوال الابن إلا دفاعاً عما احتفظ به للأب، الذي حَمَّلته الأحزاب والجماعات كثيراً، حتى اختزلته ماركةً!
ماذا لو شاهد الصَدْر استبدال حصيره بسجاجيد موشاة بالحرير، مثلما يفترش المكتسون عَبَاءَته، واستبدل كوزه بأجهزة لا تنقطع عنها الكهرباء، وهي من النفائس هذه الأيام، بينما الجار الجنب يخالط عطشه الفزع! وماذا يفعل بكتاب «اقتصادنا»، إذا ما شاهد الحاكم الأمريكي يتناول البوظا و(الفسنجون) بدعوة من زعامات أحزاب غزت الطرقات والعمائر باسمه؟! لا أكتب ذلك اعتراضاً، بقدر ما هي دالة على أن السياسة وإدارة البلاد ليستا إلهيتين، مثلما يقدمونهما، لا تصلح لمثل الصَدْر، ولا للأديان والمذاهب جمعاء.
لو رمق الصَدْر صوره لدعاية انتخابية، أو وسيلة هيمنة، أيبقى يراوده حلم الدولة الدينية! وهل يبقى وفياً لعبارته: «ذوبوا في الخميني...»؟! وقيل لم يقلها هكذا! أو يصعد المنابر دافعاً العوام إلى تكريس ما فيهم من تردٍ حضاري؟! ما أتوقعه، وهو على تلك الأوصاف، سيطالب باسترجاع حصيره والكوز، ويغلق الباب بوجه مَنْ يستفتيه بمحاصصة طائفية، مثلما فعلها مع الآتين بالخُمس إلى عتبة داره، ومنع أسرته من ثلاجة في قيظ النجف اللاهب.
يتحدر صاحب العَبَاءَة من أُسرة حلت بالعراق 1782 (محفوظ، بيوتات الكاظمية)، بعد أن ضاق بها المقام بلبنان أيام باشا الجزار، وهي أُسرة عربية، جذرها بآل شرف الدين العاملي، وتلقبت بالصَدْر نسبة لحفيده صدر الدين (ت 1846). لكن، لا غرابة لأن يُشار إليه بـ«الفارسي» في مراسلات الدولة الرسمية! حُرفت عربيته إلى الفارسية، لجسارته على تقاليد الدولة القومية في البطش، إلا أنه أخطأ توقيت التحرك، وتقدير الخصم. عموماً، فما أن سمح الزمان حتى سُرقت عَبَاءَته من على كتفيه، لتمسي طاقية إخفاء لهوائل وكبائر!
تفرعت أسرة صدر الدين إلى مشارب، غير أن السمة العامة لوجهائها: أهل رزانة. قال الريحاني وقد زار حسن الَصَدْر (ت 1935) بالكاظمية: «رأيته جالساً على حصير في غرفة ليس فيها غير الحصير، وبضعة مساند، وقد كنت علمت لفتواه أكثر من مليوني مطيع، وأن ملايين من الروبيّات تجيئه من المؤمنين.. مع ذلك يعيش زاهداً متقشفاً» (ملوك العرب) بلا غرور! وكتب مير بصري في نجله محمد الصدر (ت 1956) رئيس الوزراء، ومفتتح أول برلمان (1925): «موضع ثقل في السياسة، وعنصر اعتدال وتهدئة ورزانة، يُرجع إليه في الأزمات والانقلابات التي عصفت بالدولة الناشئة (انقلاب 1941) تعهد بالمحافظة على حياة الملك الطفل فيصل الثاني» (أعلام السياسة).
أقول: ما كانت عمامة الأخير، وهو بهذه المنزلة، عائقاً أمام نهضة البلاد ولا كبلت الناس بقيد، مثلما يُراد لعمامة وعَبَاءَة الصدر أن تقوم بهذا الدور، والفتوى نأخذها من ميمية الشيخ علي الشرقي (ت 1963): «إن كون الفلاح يطلب نوراً.. بالطرابيش كان أو بالعمائم»! لكن، العمائمَ أصناف، للنور صنف، وللظلمة أكثر من صنف! فتأمل!