ما بعد التهدئة في الشرق الأوسط ؟

TT

لا أدرى ما سيكون عليه الحال ساعة نشر هذا المقال في ما يتعلق بمباحثات التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين الفلسطينيين وأنفسهم، والجارية في القاهرة. ولكن ما أدريه أن الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية، في قلبه يمر بين موجات من اليأس والأمل، والسير نحو السلام والجري في اتجاه الحرب. وقد كانت الأيام القليلة الماضية متجهة نحو اتجاهات بناءة تحت اسم «التهدئة» وهو تعبير جديد تضيفه المنطقة الملتهبة دائما إلى تعبيرات العلاقات الدولية مثلما أضافت «الانتفاضة» ودبلوماسية «الخطوة خطوة» و«المكوك» وحالة «اللا سلم واللا حرب»، وغيرها من تعبيرات ومفاهيم. وكما هي العادة فإن براعة الكلمات الشرق أوسطية تكون في وقوعها حيث يغيب التحديد ومعرفة الحدود، فالتهدئة ليست وقفا لإطلاق النار، كما أنها ليست هدنة، وبالتأكيد ليست عملية سلام أو تسوية من أي نوع، ومن المؤكد أكثر أننا لن نعرفها إلا بعد أن يجرى تطبيقها فنراها فيكون تعريفها الذي ينتظره الجميع. فالتهدئة في النهاية هي حالة ما تقع بين كل هذه التعبيرات، وهي تعني فترة من التقاط الأنفاس، والاستعداد للتفكير في أمور أخرى تالية ليس بالضرورة أن يكون السلام بينها بل ربما يكون الاستعداد للحرب أو لأنواع أخرى من الصراع.

والحقيقة أن «التهدئة» ومفاوضاتها لا تجري فقط حول الشأن الفلسطيني بفروعه وتفريعاته المختلفة، وإنما هي حالة تلف الشرق الأوسط كله فجأة. فبدون سابق إنذار أصبحت الساحة اللبنانية فجأة هادئة، وصدرت مجموعة من التصريحات «المرطبة» للأجواء، بل كان هناك من جرؤ على توقع انتخاب رئيس لبناني مع موعد لقاء البرلمان القادم. وعلى الأقل فقد عرفنا أنه سوف يكون هناك لقاء قادم وأن المسألة ليست معلقة بين اختيارات اللقاء أو العنف. ولكن أخطر ما جاء من «تهدئة» فقد جرى تواً بين سوريا وإسرائيل حينما اعترفت الأولى بوجود قنوات علنية وسرية، ورعاية تركية لمفاوضات عميقة أعلنت فيها إسرائيل عن استعدادها للتخلي عن الجولان مقابل السلام مع دمشق. ومثل ذلك ليس جديدا بالمرة، فقد كان ممكنا لسوريا أن تحصل على الجولان لو لحقت بمصر في محادثاتها في كامب دافيد الأولى؛ كما أنه كان يمكنها الحصول عليها خلال مفاوضات فترة إدارة كلينتون خاصة وقد تمت تسوية الأمور الخاصة بالأمن والمناطق المنزوعة السلاح والتطبيع والتبادل الدبلوماسي. ولكن المعضلة التي لم يتحدث عنها أحد هي مدى التطابق بين تعبير «الجولان» وحدود الرابع من يونيو 1967 التي تقول إسرائيل إنها لم تكن حدودا على الإطلاق. ولكن «التهدئة» ليست معنية بالمضمون قدر اهتمامها بالمناخ، وقد كان المناخ الإسرائيلي السوري لطيفا إلى الدرجة التي ظهر فيها امتعاض مشترك من القدس ودمشق إزاء قيام واشنطن بنشر الصور الخاصة بالضربة الجوية الإسرائيلية على الأراضى السورية في شهر سبتمبر الماضى مضافا لها الادعاء بأن الضربة كانت موجهة لمفاعل نووي قدمته كوريا الشمالية إلى سوريا. وربما كان مدهشا في الموضوع أن هذا الموقف المشترك قد جرى بعد فترة قصيرة من اغتيال إسرائيل لعماد مغنية القائد العسكري لحزب الله على الأراضى السورية وبعد تهديدات واضحة من السيد حسن نصر الله قائد حزب الله المفوه بأن الجريمة لن تمر دون عقاب.

ولكن الدهشة ليست قضية مزعجة في الشرق الأوسط حيث يوجد ما يدهش على الدوام، وطالما أن عنوان الفترة قد صار التهدئة، فإن التوقيع عليها من قبل أطراف عدة لا يحتاج إلى تبريرات أو تفسيرات. فربما تكون التهدئة عائدة إلى حالة من الإرهاق المادي والمعنوي الكامل لكافة الأطراف المتصارعة أو تلك التي تقوم بدور الوساطة، أو تكون راجعة لأنه لا أحد يعلم تحديدا ماذا يريد في هذه المرحلة، أو أن الكل في حاجة ماسة للوقت لكي يجرى الاستعداد لجولة أو جولات مقبلة. ومن الجائز في هذه المرحلة أنه لا يوجد طرف يريد استفزاز إدارة أمريكية ربما تريد تسجيل نقطة تخص الأمن القومي في سباق الانتخابات الأمريكية؛ والجائز أكثر أنه تجري عملية تحضير للأرضية السياسية والدبلوماسية يكون فيها رئيس جديد للولايات المتحدة قد وصل إلى البيت الأبيض.

هذا الاحتمال الأخير مرجح، خاصة بعد أن أعلنه الرئيس السوري بشار الأسد صراحة، وربما على سبيل الإغاظة للولايات المتحدة فقد بدت التصريحات متفائلة بأكثر مما هو معتاد من دولة كثيرا ما اعتبرت السلام مع إسرائيل نوعا من الاستسلام. وإذا كان من غير المفهوم أن تكون الوساطة التركية بين سوريا وإسرائيل بعيدة بل معادية للإدارة الأمريكية الحالية التي ترى بضرورة الضغط على دمشق في الوقت الذي تعد الإدارة التركية نفسها قريبة للغاية من واشنطن، فإنه من المفهوم أن تكون هذه الإشارات ضاغطة على المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الجارية حاليا وتسابق الزمن من أجل التوصل إلى تسوية قبل نهاية هذا العام.

مثل هذا السباق بين الجبهتين الفلسطينية والسورية للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل ليس جديدا بالمرة، وخلال المفاوضات التي جرت في التسعينيات بعد انعقاد مؤتمر مدريد تلاعبت القيادات الإسرائيلية المتعاقبة بكلا الجبهتين من أجل التوصل إلى مزايا لدى الطرفين الفلسطيني والسوري. وكان ذلك نوعا من الانتهازية الدبلوماسية أحيانا وعاكسا لاختلافات حقيقية حول أولويات الاستراتيجية الإسرائيلية إزاء الصراع العربى ـ الإسرائيلي ومكانة إسرائيل في المنطقة. ولم يخل الأمر أحيانا من محاولات للتجريب هنا وهناك، خاصة خلال المراحل الانتقالية، وفي فترات «التهدئة» الحقيقية أو غير الحقيقية حيث توجد كثير من المحاولات لجس النبض، ويكسر الوسطاء الحقيقيون أو الجالسون على قارعة الطريق في انتظار فرصة إعلامية مضمونة.

كل ذلك يستوجب نوعا من التدخل العربى ولو لتنظيم الساحة العربية على الأقل، وإذا كانت سوريا تريد «تهدئة» على الساحتين اللبنانية والفلسطينية والسورية أيضا، فلماذا يكون ذلك في أطر تركية فقط ولا يكون ضمن إطارات عربية أيضا. ولو صح ما جرى في سبتمبر وأعلنت عنه الولايات المتحدة لكان واضحا أن سوريا معرضة لخطر جسيم نتيجة قابليتها للاختراق سواء من قبل المخابرات الإسرائيلية أو سلاح الجو الإسرائيلي وهى حالة تطلب اقترابا من الدول العربية الأخرى وليس الابتعاد عنها. والحقيقة أنه لا يوجد تعارض حتمي بين المسارين الفلسطيني والسوري لو تم كلاهما من خلال حاضنة عربية تضع المصالح المختلفة في منظومة واحدة للمبادرة العربية سواء كان السعي إليها الآن في ظل الإدارة الحالية أو تحضيرا لما سوف يكون مع إدارة قادمة. بل انه من الجائز جدا ألا يحتاج العالم العربى إلى إدارة أمريكية على الإطلاق إذا ما عرف كيف يترجم مبادراته الشاملة إلى حالة واقعية من التطبيق العملي.

«التهدئة» إذن فرصة مفتوحة لمن ينتهزها، وهي ليست مضمونة في كل الأحوال لمن لا يأخذها بجدية، وحتى الآن فإن مصر وحدها وهي المتهمة بالتخلي عن دورها الإقليمى في الداخل والخارج هي التي أخذت الأمر على عاتقها وحاولت ترجمة «التهدئة» من تعبير إلى واقع. ولكن يد القاهرة لا تستطيع أن تصفق وحدها، وما تحتاجه هو عون دول عربية أخرى لكي تكون «التهدئة» مقدمة لما هو أفضل على كافة الجبهات والمسارات وليست مقدمة لانفجار آخر!