يمكنني أن أتصور أن الطبيب يختار مهنته، كذلك الموسيقار والمعماري والمعلم ومنسق الزهور، لكن مهنة المزاد العلني تحيرني كثيرا. اعترف بأنني لم اشهد مزادا فعليا أبدا. أراقب نظرات المشترين تلفزيونيا وحركات البائعين فينكشف الغطاء عن جانب شديد الغرابة من طبائع البشر. فهي مهنة يحركها التنافس والجشع وحب الاقتناء.
سبب هذا الالتفات المفاجئ للمزادات والمزايدين هو خبر ورد في نشرة إخبارية على محطة فضائية عربية يقول إن قلادة امتلكتها «كوكب الشرق» أم كلثوم، بيعت في صالة مزادات كريستي في نيويورك بسعر بلغ مليونا وربع المليون دولار، وان حصة كريستي من البيع تبلغ ربع مليون دولار، وان القلادة مرصعة بألف وثمانمائة وخمسين ماسة. بحسبة بسيطة أدركت أن الرابح الأكبر هو كريستي، لأنه يقتطع 25% من ثمن البيع لشركته، وما تبقى من سعر القلادة يوزع على ورثة أم كلثوم، وهم كثر فلا يزيد نصيب الواحد منهم عن بضعة آلاف من الدولارات. فمن هو الخاسر الأكبر؟، الخاسر الأكبر بالطبع هو مصر، لأن أم كلثوم هي جزء من تراث ينبغي ألا يباع في مزادات نيويورك. وإن كانت القضية هي قضية فلوس، فلمَ لم تسع وزارة الثقافة سعيا جادا للحصول على ممتلكات أم كلثوم من الورثة لتبقي تلك الممتلكات في متحف خاص يؤمه المصريون وغيرهم؟، إذا كانت تذكرة السينما في مصر بلغت 30 جنيها، فهل يبخل الزائر بعشرة جنيهات كرسم دخول لمتحف يصل الحاضر بماض جميل امتعتنا فيه «الست» بفن راق اعترف به العالم كله؟
الحقيقة هي أنني شعرت بحزن دفين فور سماع الخبر، وتذكرت عشرات المشاهير الذين اعترفوا بتأثير أم كلثوم فيهم، ومنهم مغنية الأوبرا العالمية الراحلة ماريا كلاس، والمفكر الفرنسي جان بول سارتر، والمغني الأميركي بوب ديلان، والرسام سلفادور دالي، وغيرهم كثيرون.
هل كان ينبغي على أم كلثوم أن توصي بألا تباع ممتلكاتها بالمزاد؟ هل كان يجب ان تحرم ورثتها من الميراث فترتكب إثما عظيما؟، إن لم تفعل فلها العذر لأنها دافعت عن الوطن بكل ما تملك وهي على قيد الحياة، وتبرعت بإحياء حفلات كثيرة لم تتقاض عنها أجرا من اجل المجهود الوطني. فلا اقل من أن تحترم ذكراها ولا تباع أشياؤها الخاصة في مزادات العالم من اجل حفنة من الدولارات. احد أجمل المتاحف التي تزدان بها القاهرة متحف محمود خليل في الجيزة. المتحف هو الفيلا التي سكنها محمود خليل مع زوجته الفرنسية وجمع فيها مقتنيات فنية كثيرة أهمها مجموعة من لوحات لكبار الرسامين الفرنسيين من المدرسة الانطباعية. محمود خليل لم ينجب، وقبل وفاته أوصى بأن تتحول الفيلا ومقتنياته إلى متحف. حين زرت المتحف للمرة الأولى جذبني إليه إعجابي بأسلوب الانطباعية في الرسم. لكنك لا يمكن ان تدخل بيتا قدمه لك صاحبه هدية من دون ان تسأل من هو؟ وماذا كانت دوافعه حين ترك بيته للدولة كشاهد على العصر الذي عاش فيه؟، فإن نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية، أدركنا أن الزائر يدخل في علاقة مباشرة مع صاحب الفيلا ومع مقتنياته الجميلة، ويسعى لمعرفة المزيد عنه وعن زمنه ومآثره. ولو أن بيت أم كلثوم لم يهدم وأشياءها لم تبع، لظل البيت وما فيه شاهدين على زمن جميل اندثر أو كاد.