في مناسبة اجتماعية عادية ـ وقلما أحضر مثل هذه المناسبات ـ سألني الشاعر والروائي غازي القصيبي هذا السؤال الحاسم ـ بما معناه ـ: هل ما تكتبه في زاويتك من حوادث، هل هي حقيقية أم من نسج الخيال؟!
أجبته بسؤال أكثر حسماً: هل ما كتبته أنت في رواياتك لا في شعرك، هل هو حقيقة أم من نسج الخيال؟! لا أذكر وقتها بماذا أجابني، لكنني أذكر جيداً ابتسامته الساحرة.
ولكنني الآن أستطيع أن أجيب عن سؤاله وأقول: من الممكن أن يكون ما اكتبه هو (ففتي ففتي) ـ بمعنى (50%) واقع و(50%) خيال ـ لكن أحياناً يطغى الواقع على الخيال وأحياناً العكس.
وبيني وبينكم يا ليت الخيال هو (100%)، لأنه من هو العبقري الذي يستطيع أن يجمع خيوط العالمين بكل ترهاتهم وأحزانهم وأفراحهم ومساخرهم ومظالمهم وأحلامهم وبلاويهم، التي لا أول لها ولا آخر، ثم يصوغها على كيفه ومن نسج خياله كما يشتهي؟!.. من هو؟! لا أعتقد أنه يوجد، ولا حتى (شكسبير) بجلالة قدره استطاع أن يفعل عشر معشار ذلك.
نحن نستلهم الواقع، (نتفشش) من الواقع ـ وبهذه المناسبة أعترف علنا من دون أي حرج أو خوف أو خجل وأقول على جماجم الأشهاد ـ نعم، إنني غشاش ثم غشاش ثم غشاش من سجل الحياة والأحياء، وكذلك الأموات من طائفة البشر.
ولم يذبحني ويقض مضجعي أكثر من هذه الطائفة النزقة والمترهلة في نفس الوقت ـ وأقصد بها طائفة البشر ـ، هذه الطائفة المتناقضة المتصادمة المتصارعة المتآكلة اللوّامة الهجاءة الكذابة التي تضيق الخناق على بعضها البعض، وقد لا تعطي الفرصة أو تفسح المجال لبعضها البعض مع أن العالم شاسع بالبراح، والكون كله ليس له حدود ولا أبعاد.
وكعادتي غير الحميدة عندما أنفعل أخرج عن الموضوع وأنساه، ويبدو لي أني تأثرت في هذا المجال بالشيخ المرحوم علي الطنطاوي، الذي هاجمه بعض المشايخ لأنه يعرف السلم الموسيقي، وفوق ذلك كله يطرب لبعض الغناء، وهل بعد ذلك من إدانة؟!
أعود لما بدأت به وأقول: إن ما أكتبه ينحرني أحياناً، ويستفزني أحياناً، ويبهجني أحياناً، ويثير في نفسي الاشمئزاز أحياناً.
صادفت من الناس الكثير، وعايشت وجربت واختزنت وحبكت وتآمرت بل وتلصصت، ولكن، ومع ذلك كله، لم أسرق يوماً، أو أهتك الأعراض يوماً.
صحيح انني شغوف بكل ما هو مثير وغير تقليدي بكل شيء، ابتداءً من الطبيعة إلى التاريخ، ووصولا إلى المرأة.
الطبيعة تأسرني، حفيف أوراق الأشجار، تفجرّ البراكين، العواصف، الفيضانات، السراب، الغيوم عندما تتلاعب.
التاريخ بكل حجارته وتماثيله (ومومياءاته) وفتوحاته واكتشافاته وجلاديه، ودماء ودموع كل ضحاياه، يقلبني ظهرا على عقب.
والمرأة أيا كانت، سواء كانت قابعة مستكينة في (خدرها)، أو ممسكة بصولجان ملكة الجمال بيمينها وتوزع الابتسامات على شاشات المحطات الفضائية، إنني أشفق عليها، وأشفق على نفسي منها.
إنني أستمد من كل ذلك عناصري ومواضيعي، وأصدق أحياناً، وأكذب أحياناً، وأتهكم أحياناً، ولكنني في كل الأحوال، وفي كل مقال أطرحه، أطرح معه بكل تأكيد قطعة من كبدي.