في ذكرى النكبة أتّضح أكثر من أي وقت مضى، أن هناك عالمين ومفهومين، وتوقعين مستقبليّين للتوجّه الذي سوف تتخذه منطقتنا، وخاصة حيال الصراع العربي الإسرائيلي. فالإعلام العالمي منشغل بالذكرى الستين لولادة إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة، بينما الفلسطينيون يحصون ضحاياهم على مدى ستين عاماً، ويسلمّ الأجداد المفاتيح للأحفاد لبيوت هدمها الاحتلال الإسرائيلي منذ زمن، واستبدل تصميمها العربيّ الجميل بمستوطنات إسمنتية بشعة، وبمستوطنين مسلحين هدروا كرامة العربي منذ زمن، واعتبروا الحصار والاستيطان والتهجير وتجريف الأراضي، واقتلاع أشجار الزيتون، وتسميم الآبار، أدواتٍ لا بدّ منها لتحقيق حلمهم في بلاد الميعاد، ولتأسيس دولتهم القومية في فلسطين. كلّ ذلك مع تطوير وعد بلفور نفسه الذي اعترف أن هذا الكيان سُيؤسّس في فلسطين، والذي أكّد في الوعد نفسه «أنه من الواضح أنه لن يتم القيام بشيء يمكن أن يؤثر على الحقوق المدنيّة والدينيّة للمجموعات غير اليهوديّة في فلسطين». ولم يقل للأقليّات، ذلك لأن المجموعات غير اليهوديّة، أي المجموعات المسلمة والمسيحيّة في فلسطين، لم تكن أقليّات بل كانت الأغلبيّة، ولو كانوا أقلياتٍ لما تردّد بلفور باستخدام كلمة «أقليات» «Minorities» بدلاً من «Communities». يتم تطوير أو تجاوز وعد بلفور باتجاهين رئيسييّن اليوم: الأول هو محاولة طمس معالم فلسطين وهوية فلسطين التراثية والزراعية والاجتماعية والفنية والثقافية. والأمر الثاني هو التعدّي المزمن والمدمّر للحقوق المدنيّة والدينيّة للمجموعات غير اليهوديّة، أي لمسلمي ومسيحييّ فلسطين بحيث يمنعهم التنكيل، حتى من الصلاة في الجامع والكنيسة، وحتى من زراعة أرضهم، ومن قراءة كتبهم أو استكمال تعليمهم في المدارس. وإذا كانت إسرائيل تحتفي بحضور رئيس الولايات المتحدة بذكرى تأسيسها الستين، فماذا على العرب أن يفعلوا؟
لقد صنع الفلسطينيون رموزاً جميلة لقضيتهم ووضعوا المفتاح والكوفية في لوحات تقشعر لها الأبدان، كي يسلّمها الأجداد للأحفاد، ولكنّ السؤال الجوهري هو هل قضية فلسطين تخص الفلسطينيين فقط؟ وهل الصراع هو فقط على تلك الأجزاء من الأراضي العربية المحتلة أم أنه صراع على التراث والهوية العربيين وعلى نوع المستقبل الذي تطمح له هذه الشعوب؟
من الواضح من مقاربة الإعلام العالمي لقضية فلسطين ولبنان والعراق والسودان والصومال، أن العرب يخسرون مكانتهم الدوليّة يوماً بعد يوم، ويخسرون زخمهم وحتى مصداقيتهم ولغتهم، بينما تُستبدل مكانتهم المنزاحة بمكانة من يحتلهم، ويستوطن أرضهم، ويسجّل أطباقهم الغذائية باسمه، ويسرق آثارهم ليعرضها في المعارض الدولية كجزء من تاريخه، ويخطّط للمئة أو للمئتي سنة القادمة، بينما العرب مصابون بنوع من الذهول، إذ كيف يمكن للعالم أن يقف مع المعتدي ضدّ الُمعتدَى عليه، ويأملون، وهم يحلمون، أن تعود موازين الحقّ إلى نصابها، من دون أن يضطروا إلى بذل الجهد والعرق وتقديم العمل والفكر الضروريين لإعادة وضع الأمور في نصابها الصحيح. ولكن هل العمل المطلوب هو فقط في المجال السياسي، أم أنّ الهجمة تعدّت الاعتداء على الأرض إلى الاعتداء على مكونات الهويّة، وأصبح الفعل المقاوم شرطاً للثقافة والعدالة والتراث والاقتصاد وكل مناحي الحياة؟ إذ لم يعد مقبولاً اليوم أن ينتظر العرب جميعاً ما تفعله حكوماتهم، خاصة أن الاختراق للوضع العربيّ اليوم أصبح السلاح الأمضى الذي يستخدمه أعداء هذه الأمة ضدّها. وهم يراهنون على هذه الاختراقات، ونحن نلمس نتائجها اليوم كما لم نفعل من قبل. وإلا كيف يمكن لنا أن نفسّر عدم اتفاق الفلسطينيين على استراتيجيّة واحدة وهم جميعاً ضحايا الاحتلال والعدوان؟ وكيف نفسّر عدم قدرة العراق على وقف زحف الاقتتال الطائفي والعرقي والذي ترسى ركائزه بحرفية واستهداف عاليي المستوى؟ وكيف نفسّر ما يحدث في السودان وما يحدث في لبنان من عدم قدرة من يشكلون نسيج وطن واحد على الاتفاق على المصلحة الوطنية العليا، والسبل الكفيلة بتحقيق هذه المصلحة؟ لقد تغيّر أسلوب الحرب وأسلوب الصراع، وكذلك يجب أن تتغير أدوات الردّ عليه. إذ أصبحت النكبة بالنسبة لإسرائيل اليوم مجرّد «كلمة» تطلب من الفلسطينيين شطبها، كي توافق على دولة لهم. أي تطلب منهم أن يشطبوا تاريخهم وهويتهم وآلامهم وحق العودة إلى ديارهم، وحقّهم في القدس وحقّهم في فلسطين، فأي دولة سوف تعطيهم بعد ذلك؟ وهل أعطى أحد لأحد دولة في التاريخ أم انتزعت الحقوق انتزاعاً؟ ولكنّ تمرّس الكيان الغاصب بالاستهانة بالعرب وآلامهم وتاريخهم، ناجم أولاً عن استقواء الكيان بقوته وقوة الولايات المتحدة العسكرية وقدرتهم على الفتك والقتل والدمار، وجبن العالم عن قول الحقيقة والوقوف مع الحقّ والعدالة. ولكنّه ناجم أيضاً عن ثقتهم بقصور أدوات الردّ العربية بشكل كبير، والتي، وحتى حين تكون واضحة المنظور والمفهوم، تبقى حبراً على ورق في غالب الأحيان. واليوم وفي الذكرى الستين للنكبة علينا أن نرى أن أعداءنا يحتفلون، وأن ندرك أنهم، إلى حدّ ما، يحتفلون بعجزنا عن مواكبة أدوات العصر وأساليب الدفاع عن النفس الناجعة. فبالإضافة إلى الاختراقات التي حقّقها أعداؤنا ضمن صفوفنا، فإن الاختراق الأهم هو وجود البعض الواثقين بقدرة أعدائهم، وعجز أنفسهم عن مقاومة الأعداء، أو الذين يضعون القرارات التي يجب أن تتخذ من دون أن تكون هناك آليات للتنفيذ أو حتى نية وتمويل للتنفيذ.
وعلّ أفضل وأهم قرار أتُخِذَ في الذكرى الستين للنكبة، هو قرار وزراء العدل العرب الذين اجتمعوا في القاهرة بتشكيل لجنة قضائية عربيّة لجمع وتوثيق الأدلة على جرائم الحرب والإبادة الإسرائيليّة. وطبعاً هناك قرارات مماثلة لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيلييّن، ولكنها لم تنفذ. أهميّة هذا القرار لوزراء العدل، هو أنه يجب توثيق ونشر الأدلة على جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني، ووضع آليات العمل لتحديد أنجع السبل لملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن ارتكاب تلك الجرائم وتوفير الحماية للشعب الفلسطيني. لو كانت «إسرائيل» واثقة بأنّ الآليات والتمويل سوف تُوضَع لهذا القرار لأثار الرعب فيها.هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا بدّ من تسليط الأضواء على عناصر القوة العربيّة المعروفة والموجودة في ثنايا هذه الأمة الغنيّة لإخراج أجيالها من الشعور بالإحباط والدونيّة تجاه عدوّ يتقن فنّ الدعاية والإعلام، مقابل عجز عربيّ واضح في هذا المجال. فقد أشرت قبل مرة عن أعمال وندوات ومؤتمرات عربية تُعقَد وتُري أنّ العمل الفكري والثقافي والاقتصادي، يأخذ مساراً عربيّاً متكاملاً وموجوداً في كلّ عاصمة عربية، ولكنّ الأضواء لا تُسلّط عليه فيأتي ويذهب وكأنه غير موجود.
في الأسبوع الماضي احتضنت مدينة دمشق، عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، مؤتمراً للمدينة والثقافة، وحضر المفكرون من فلسطين والأردن ومصر ولبنان جميعهم يكتبون بفضاء عربيّ وبلغة عربيّة مستندين إلى التاريخ والأبحاث العربية في هذا الصدد. وكانت الأبحاث على مستوى راقٍ فقد حضر كمال أبو ديب من لندن وسحر خليفة من فلسطين ومحمد شاهين من الأردن وفريدة النقاش من مصر وعبد الله ابراهيم من العراق، بالإضافة إلى أسماء أخرى من سورية وغيرها، ولكن الحضور كان متواضعاً والإعلام لم يحتف على الإطلاق بهذا الحدث المهم. وبعد ذلك أقامت أيضا الأمانة العامة لدمشق عاصمة الثقافة العربية، أسبوعاً بعنوان «النساء يغنين» في قصر العظم في دمشق، أجادت به لبانة قنطار من سورية وكريمة صقلي من المغرب وفريدة العلي من العراق ومي فاروق من مصر وجاهدة وهبة من لبنان وجميعهن انصهرن مع جمهور لم يميّز يوماً بين لبنان والمغرب ومصر والعراق، بل توجه إلى قصر العظم كلّ يوم بالزخم ذاته وبالمحبة ذاتها وبالعشق ذاته لطرب عربي وحيد متعدّد الظلال وأوجه الإبداع فقط في بلدان عربية مختلفة. وشعرت وأنا أحضر هذا الأسبوع، وأراقب الاندماج الكامل بين العرب من جميع أقطارهم، وكأنهم صوت واحد وقلب واحد وضمير واحد.
في الثقافة والفنّ والأدب، الهوية العربية متينة ورصينة ومصدر فخر لنا جميعاً، فلماذا لا تكون أحد أدوات المقاومة الصلبة لهذا الطغيان الشرس، الذي يحاول النيل من هويتنا وأمتنا ولغتنا ومستقبلنا؟ علّ ما أودّ قوله هو أن السياسة وحدها لم تعد كافية لمواجهة التحديات التي تواجهها هذه الأمة، وأحد هذه التحديات هو الاحتلال والاستيطان، بل نحتاج إلى شد أزر كل القوى المؤمنة من كتاب ومثقفين وأدباء ومفكرين وقضاة ومحامين، لمعالجة الملفات المطروحة على جيلنا هذا والتي لن يسامحنا جيل المستقبل إذا لم نعالجها بكل أناة واقتدار. لو كانت كلّ هذه الملفات حاضرة في وعي العالم، لما تجرأت إسرائيل على طلب شطب «النكبة، إذ أن «النكبة» ليست كلمة تُشطَب، بل هي تاريخ عدوان وجرائم واغتصاب حقوق. ولما تجرّأت بعثة الكيان لدى الأمم المتحدة أن تطلب توضيحات حول استخدام كلمة «النكبة» في بيان أصدرتّه الناطقة بلسان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.
فهل نلتفت جميعاً إلى التوثيق والإعلام والتحصين لكلّ ما يمدّنا بالقوة والمناعة، بحيث يصبح العمل السياسي جزءاً من العمل المقاوم، ترفده أعمال أخرى في غاية الأهمية، وتضع على طاولات صنع القرار في العالم، جرائم إسرائيل وصورتها الحقيقيّة، بهدف دفع العالم إلى اتخاذ موقف مع الحقّ العربيّ، وهذه مسؤوليّة كلّ عربيّ في كلّ بلدان العرب؟
www.bouthainashaaban.com