كان المفكر والمناضل الايطالي انطونيو غرامشي يقول هذه العبارة: ينبغي ان نمتلك تشاؤم الفكر وتفاؤل الارادة. ولكن تشاؤم الفكر ليس له حدود في هذه الايام، خاصة فيما يتعلق بمنطقتنا، فكلما تشاءمت اكثر سبقك الواقع من حيث التدهور الذي يتجاوز كل تشاؤم. فهل بقيت لدينا عزيمة لكي نحتفظ على الأقل بتفاؤل الارادة؟ شيء مشكوك فيه.. الشيء المؤكد على أي حال هو ان كلا المشروعين الكبيرين اللذين هيمنا على المنطقة منذ 11 سبتمبر قد وصل الى الباب المسدود. هذا ما يقوله الباحث الفرنسي جيل كيبل في كتابه الأخير الذي لا استطيع تلخيصه هنا لان ذلك يتطلب عشرات الصفحات.. وبالتالي يكفيني ان اذكره مجرد ذكر. الاطروحة المركزية تستحق النقاش. وهي ان مشروع الرئيس بوش والمحافظين الجدد لم يؤد الى النتائج التي كانوا يتوقعونها او يأملونها. وبالتالي فبعد ان جرب نفسه لمدة سبع او ثماني سنوات اصبح يلهث من شدة التعب ولم يعد أمامه أي أفق يغري.
والسبب كما يقول لنا مثقف فرنسي آخر هو دومينيك دو فيليبان رئيس وزراء فرنسا السابق يعود الى كون مشروع المحافظين الجدد قائما على تغيير الواقع بالقوة المحضة فقط.
وقد كشفت القوة التي جُربت في افغانستان والعراق عن محدوديتها على الرغم من عظمتها التكنولوجية وجبروتها. الشيء الذي لم يفهمه هؤلاء هو ان الكوارث او الخسائر الجانبية الناتجة عن استخدام القوة العسكرية والتكنولوجية الضاربة كانت فادحة على المستوى الانساني لدى كلا الشعبين الافغاني والعراقي. ولم يرافق مشروعهم العنيف أي تفكير بتضميد جراح هذه الشعوب التي يجربون فيها او عليها اسلحتهم الفتاكة. فاذا كنت تريد ان تخضع الاصولية الافغانية او الطالبانية فعلى الاقل اعط شيئا من الأمل لهذا الشعب المنكوب لكيلا يرمي نفسه في احضان التطرف غصبا عنه. لماذا لا ترافق سياسة القوة أي سياسة انسانية او معونات اقتصادية تخفف من آلام الشعوب التي وصلت الآن الى حد المجاعات؟ أين هو الكرم الحاتمي للغرب ولشعوبه المتخمة شبعا وبطرا؟ لا شيء، لا شيء تقريبا. نريد ان نخضعكم بالقوة دون ان نسمح لكم بأن تأكلوا الخبز! منطق اعوج لا مثيل له وهو الذي سيقود الى فشل هذا المشروع الجهنمي لما يدعى بالمحافظين الجدد الذين فقدوا كل نزعة انسانية او عاطفة قلبية. ولكن من يتحدث عن العواطف هنا؟ انهم يضحكون عليك ويستهزئون بك ويعتبرونك ساذجا مغفلا. فهؤلاء القادة الذين يتلاعبون بمصير البشر ويستطيعون تجويع شعوب بأسرها لا وقت لديهم للتفكير بالعواطف الانسانية.. هنا يكشف الغرب عن ازمة حضارية واخلاقية لا مثيل لها. نقول ذلك، خاصة ان المجاعات ابتدأت تزحف لكي تصيب بلدانا عديدة من بينها اقطار عربية. ويقول جان زيغلير الخبير في شؤون التغذية العالمية والمسؤول عن برنامجها سابقا لدى الأمم المتحدة ان العالم لم يكن غنيا بالثروات في حياته مثلما هو عليه الآن. فهو قادر اذا ما حصل تضامن انساني بين الدول الغنية والدول الفقيرة على اشباع اثني عشر مليارا من البشر وليس فقط ستة مليارات الذي هو عدد سكان الكرة الارضية حاليا. ولكن لا يوجد أي تضامن انساني ولا أي نظام اقتصادي عادل على المستوى العالمي. والشركات المتعددة الجنسيات لا تشبع. وقادة الغرب لا يذهبون الى البلدان العربية او غير العربية إلا لعقد الصفقات المربحة..
وأما المشروع الآخر، أي الاصولي على طريقة بن لادن والظواهري، فهو ايضا قد فشل وكشف عن مدى تهوره وخطره على المسلمين اولا قبل غيرهم. وبالتالي فلا مستقبل له. وربما كان فشله اكثر فداحة من فشل مشروع المحافظين الجدد بكل حماقاتهم ومغامراتهم ومقامراتهم بمصائر الشعوب. فقد استطاع التيار الوسطي في الاسلام، أي تيار الشيخ يوسف القرضاوي والاسلاميين العقلاء نسبيا، ان يحجمه ويقضي عليه. نعم لقد استطاع ان يسحب البساط من تحت اقدام الغلاة المتطرفين وان يأخذ منهم معظم جماهيرهم. وهذا ما يؤلم الظواهري ويكاد يجنّ جنونه.
هذا لا يعني بالطبع ان القصة انتهت! فهي مرشحة لان تشغلنا عدة عقود قادمة من السنين. ولكنه يعني ان الوسطيين استطاعوا ان يحصدوا الثمار التي زرعها المتطرفون وان يقلبوا الطاولة عليهم. فأنا دائما معتدل بالقياس الى من هو متطرف اكثر مني..
وهذا قانون كلاسيكي في عالم السياسة والايديولوجيات. دائما حزب الوسط والاعتدال يربح الجولة في نهاية المطاف ويهمش الاطراف المتطرفة الرعناء.
ولكن المشكلة هي ان هذه الوسطية بالذات ليست كافية إلا بالنسبة لتهدئة الوضع الراهن على المدى المنظور. انها حل مؤقت ليس إلا. ولكنه حل سوف يتحول الى مشكلة عندما تكتشف الشعوب العربية والاسلامية مدى الفجوة الحضارية التي تفصل بيننا وبين الشعوب المتقدمة التي صالحت بين تراثها الديني وبين الحداثة الفكرية والسياسية. وهنا نجد ان اطروحات الوسطيين من امثال الشيخ القرضاوي وسواه لا تشفي الغليل لسبب بسيط: هو انها لا تزال قروسطية ترقيعية عاجزة عن التصالح مع المفهوم الحديث لدولة الحق والقانون او لحقوق الانسان والمواطن. ومن هذه الناحية بالذات لا يوجد أي فرق يذكر بين المعتدلين والمتطرفين. فكلاهما خاضع لفقه القرون الوسطى ولاهوتها «المعصوم» تماما كما كانت الكنيسة الكاثوليكية حتى عام 1962 ـ 1965: تأريخ صدور الفتاوى اللاهوتية الجريئة والقرارات الثورية التي صالحت المسيحية مع الحداثة بعد طول مشاكسة وعناد.. وبالتالي فهناك عملية جراحية مؤلمة لا بد من المرور بها قبل ان يحصل التصالح بين الإسلام والحداثة. وهذه عملية لا يستطيع القرضاوي، ولا سواه من المشايخ، القيام بها. انها تتطلب شخصيات اخرى ومفكرين من العيار الثقيل.