حماس الشعارات

TT

هل يوجد شعار اجتماعي او فكري يبقى نقيا من حسابات السياسة على طول الخط؟ هل هناك عمل مقدس وآخر مدنس في السياسة، أم أن السياسة هي حقل آخر ومجال مختلف لا تشتغل فيه معايير المبادئ الأخلاقية المتعالية؟

كل يدعي امتلاك المبدأ الصحيح، والسمو السياسي، وهو يمارس العمل السياسي المنغمس في حسابات وتكتيكات الربح والخسارة.

الأمثلة كثيرة، لنأخذ بعضها؛ حماس مثلا، وهي حركة بدأت من يومها الأول باعتبارها ممثلة النقاء الفلسطيني في عالم المقاومة، والممثلة الإلهية للقضية. منذ البداية، كانت تبشر باختلافها وتعاليها على لوثات الحركات النضالية الفلسطينية التي تدخل على القضية من بوابة الدنيا، ووحل الأرض والحسابات البشرية المنخفضة، بينما هم يدخلون من بوابة السماء وخفة الروح النقية، كما هي لغة عبد الله عزام، أحد أوائل مَنْ بشرَ بحماس في كتابه: حماس الجذور التاريخية والميثاق. وظلت حماس طويلا على هذه اللغة، مستفيدة من اللمحة الثورية النقية لرموزها، كما في صورة المهندس يحيى عياش الذي تحول إلى أسطورة، وهو يعتمر كوفيته ويخاتل العدو الإسرائيلي، كما هو الحال مع كل حركة «نقية» لا بد أن تخلق أساطيرها ورموزها.

بعد عودة ياسر عرفات وفتح إلى غزة والضفة، على عربات اتفاق أوسلو(1993) وقيام السلطة الفلسطينية، أصبحت حماس أكثر حدة في توضيح تميزها عن الخط السياسي الملوث، وانها الوفية للثورة الفلسطينية، الإسلامية الصافية هذه المرة، وليست ثورة فتح والحركات العلمانية التي لم تتطهر بنور الإيمان، ومارست دور المعارض المسلح لأي اتفاق أو تفاوض تجريه السلطة مع الإسرائيليين، متهمة رفاق عرفات بأنهم خونة وحراس لأمن إسرائيل. الآن نرى حماس بعد نجاح فوزها في الانتخابات التشريعية في يناير (كانون الثاني) 2006، وتوليها لرئاسة الحكومة، مع الرئيس عباس، وهو من عرابي التفاوض والسلام مع إسرائيل، ولم يدم الأمر طويلا حيث انقلبت حماس وهيمنت على غزة، بحجة نقاء الثورة، وبعد تغير الحسابات، بحصول سلطة حقيقية في أيديهم، لها أجهزتها ومصالحها، وبعدما أبدت حكومة أولمرت عزمها على توجيه ضربة عسكرية قوية لدولة حماس في غزة، رأينا سعيد صيام، وزير داخلية حماس، ورجلها القوي، يهدد مجموعات فتح التي أطلقت صواريخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية، بالويل والثبور، وأن مطلقي الصواريخ باتجاه إسرائيل، يعني «المجاهدين» بلغة حماس السابقة، يضرون بالمصلحة الوطنية.. ليتلقى الثناءَ من وزير الدفاع الإسرائيلي باراك على عقلانيته.

فهل تسلمت حكومة حماس دور الحارس الإسرائيلي من فتح؟

الحق أنه لا حماس حارسة لإسرائيل، كما لم تكن فتح من قبل حارسة لإسرائيل، هذه كلها حملات تشويهية، من أجل إحراج الخصم وتلطيخه. وهي اتهامات «أخلاقية» في عالم السياسة الذي يعترف كما قلنا بالمصالح فقط. كذلك صنعت سوريا، دولة الصمود والتصدي، والتي وصفت خصومها من الدول العربية بأنها «منتجات إسرائيلية» وأنصاف رجال، ها هي اليوم «تهرول» نحو إسرائيل على حد نزار قباني في قصيدته الشهيرة التي طبل لها مثقفون وكتاب عرب من الشمال والجنوب، ونراهم اليوم لزموا صمت الحملان إزاء الهرولة السورية، وكل ذلك مفهوم تحت عنوان «الكيد السياسي» المعتاد هنا في منطقتنا العربية. وقل مثل ذلك عن إيران، الثورة الخمينية، التي تخوِّنُ كل من نطق، مجرد نطق ربما، اسم أمريكا او إسرائيل في العلن، وتثير الفتن تحت هذا العنوان في كل مكان، ومن تحت الطاولة تفعل كل ما تمليه مصالح «الدولة» الإيرانية، وتتحدث مع الغرب لغة مغايرة أثناء الموائد المستديرة.

لا تلام سوريا ولا حماس ولا إيران، إن مارست كلها «الأخلاقوية» بخطابها السياسي، واستخدمت ثنائية الخير والشر والحق والباطل في تنفيذ مصالحها السياسية، بل يلام مَنْ يصدق هذه الدعايات ويصدق إخلاص السياسة والساسة لهذه المضامين الأخلاقية. الكل من دول ومنظمات وأحزاب، من أقصى الغرب، حيث أمريكا، مروراً بالوسط حيث دولنا العامرة وأحزابنا الأكثر عمرانا، إلى أقصى الشرق حيث «كان يا ما كان» الاتحاد السوفياتي مالئ الدنيا وشاغل العالم حينها بشعارات العدل الاجتماعي وثورة العمال، لكنه لم يكن بنفس هذه «الحنبلية» والتشدد أثناء تعرض مصالح «الدولة» للخطر.

هذه شيمة تاريخية، دوما المصالح السياسية تتقدم على الشعارات المرفوعة، مهما كانت، ودوماً إذا زاد الحديث عن الشعارات من قبل هذه الدولة أو تلك، أو هذا الحزب أو ذاك، فاعرف أن الضجيج العالي يخفي حركة أخرى تناقض شعارات هذا الضجيج!

ولو بحثنا في التاريخ، البعيد والقريب، لوجدنا الكثير من الشواهد والبراهين على تثبيت هذه الحقيقة الدائمة وهي أن: المصالح فوق الشعارات، فالملك الأيوبي الملقب الملك العادل (576-635 هـ) حينما تنازع مع إخوانه الملوك: المعظم والأشرف، أبناء أخي صلاح الدين، على الدنيا طبعاً، استعان الملك الكامل بالإمبراطور الصليبي فريدريك الثاني على أخويه، مقابل أن يتنازل الملك المسلم للملك الصليبي عن بيت المقدس. وعقد معه اتفاقا سنة 626هـ كما يذكر المؤرخون المسلمون، وحينما أوشكت الأندلس على السقوط، بسبب الحملات العسكرية الساحقة لجيوش الملوك النصارى في إسبانيا، قبل أن تسقط بالفعل في غرناطة (1492م‏)،‏ هرع مسلمو الأندلس إلى العثمانيين والمماليك في استنبول والقاهرة، بعدما يئسوا من فائدة دول المغرب العربي المتهالكة، ولم يصنع سلطان المماليك سوى أن أرسل رسالة عتاب وتهديد إلى الملك فرديناند. أما السلطان العثماني، فاعتذر بانشغاله بالحرب مع خصومه المماليك الذين يهددون ملكه، وكذلك مع أخيه المنشق عليه، مكتفيا بإرسال بعض السفن للتناوش العسكري الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وفي الطرف الثاني، وقف بعض ملوك أوروبا مع السلطان العثماني في حروبه ضد بعض الإمارات والملوك الأوربيين، طمعاً في فائدة أو خوفا من تهديد، وفي الحالتين كان البحث عن المصلحة.

وفي التاريخ القريب، تخلت إيران عن مساندة بعض مجموعاتها في الخليج، بعدما رأت أن مصلحتها تكمن في عدم توتير العلاقة مع بعض دول الخليج، تاركة مَنْ آمن بنقاء شعاراتها يواجهون مصيرهم، وربما هذا ما سيحدث لبعض من يرفع شعارات إيران الثورية الآن إذا ما رأت «الدولة» الإيرانية أن مصلحتها تكمن في نوم هذه الشعارات أو تغييرها. وحينما اندلع الصراع بين حكومة أذربيجان والانفصاليين الأرمن، وقفت الحكومة الإيرانية مع الحركة الأرمنية المسيحية ضد الحكومة الأذرية التي تمثل شعبا أغلبيته من الشيعة، والسبب مراعاة المصالح.

كل ثورة أو حركة سياسية أخلاقوية، تبدأ بعنفوان وجموح يجتث أمامه كل من ينادي بلغة أخرى، لأنها حركة تريد مسح الطاولة كلها، وانشاء فعالية جديدة التاريخ، ثم حينما تستقر مياه الثورة في باطن القاع الاجتماعي، وفي تضاعيف الحركة السياسية والاقتصادية اليومية، تتروض الثورة، وتركب الدولة على ظهرها، لتصبح حصانا أليفا ينقاد بلجام المصلحة وحسابات الربح والخسارة.. وهكذا.

هل يعني هذا أن السياسة بلا مبادئ ولا أخلاق؟ وهل يعني هذا أيضا أن كل الساسة أبناء ملة واحدة؟

ليس بالضبط، ففي النهاية الحركات والاتجاهات السياسية تعبيرات عن ثقافة وتفكير المجتمعات، لأنه من المستحيل تصور أن تنجح حركة ماركسية تحكم في أمريكا مثلا، أو تنجح حركة معادية للدين في حكم دول مثل دول الجزيرة العربية، وكثير من الدول العربية الأخرى أيضاً.

الفكرة هي أن للسياسة، مهما كان المجتمع الذي توجد فيه، ومهما كانت ثقافته وهويته، لغتها وحساباتها، تختلف لغة التعبير، وتتنوع أمثلة التحايل في تمرير المصلحة في قالب مثالي، ولكن النتيجة واحدة، ودوما هناك حطب للشعارات المرفوعة، تتغذى به نار السياسة التي تقول دوما: هل من مزيد.

[email protected]