فرعون موسى

TT

لعل من أعظم أسرار الحضارة الفرعونية القديمة التي لا يزال علماء المصريات يبحثونها من كل أوجهها؛ قصة خروج بني إسرائيل من مصر، وتحديد شخصية فرعون موسى، فعلى الرغم من وجود القصة بتفاصيلها في التوراة والقرآن الكريم إلا أن شخصية فرعون الخروج لم تحدد بالاسم. وورد عن المفسرين قولهم إن القرآن الكريم نأى عن ذكر الأسماء، وذلك صوناً لكرامة الإنسان وخصوصيته، فلم يذكر شخصية عزيز مصر الذي اشترى يوسف ورباه في بيته أو حتى امرأته التي راودت يوسف عن نفسه أو شخصية ملك مصر الذي جعل من يوسف أميناً على خزائن مصر وغير ذلك من الأمثلة الكثير؛ ولعل السبب كذلك هو إعطاء العقل البشري مساحة من التفكير لتعقل الرواية القرآنية بدلاً من تحديدها في نطاق أشخاص بأسمائهم والبعد عن المعنى الشمولي للرواية وجعلها قصة دارت أحداثها بين أشخاص بعينهم والله أعلم.

نعود إلى فرعون موسى، فلا يزال العلماء يتباحثون فيما بينهم ما إذا كان هذا الفرعون شخصية واحدة أم شخصيتين؟ أحدهما تربى موسى في قصره ووسط أبنائه، والآخر ناصب موسى العداءَ بعدما أبلغه الأخير برسالة ربِّهِ إليه وحارب بني إسرائيل حتى كان الخروج من مصر. وفي ظني أن فرعون موسى هو فرعون واحد، ولعل في قوله تعالى «قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ» الشعراء 18؛ ما قد يشير إلى كونه فرعوناً واحداً هو الذي شهد قصة موسى وبني إسرائيل كلها حتى كان الخروج.

نحن إذاًَ نتحدث عن فرعون عاش وحكم لفترة كبيرة. ومثل هؤلاء في التاريخ الفرعوني القديم قليل مثل الملك «بيبي الثاني» الذي عاش أكثر من ثمانين عاما. ولا يمكن أن تكون قصة موسى قد حدثت في الدولة القديمة، حيث يتفق علماء المصريات والتاريخ أن موسى وبني إسرائيل عاصروا الدولة الحديثة بعد تاريخ 1550 ق.م، خاصة بعد أن أجمع هؤلاء العلماء على أن العبرانيين جاءوا إلى مصر مع الهكسوس بعد الدولة الوسطى، وعاشوا خلال ما نطلق عليه عصر الاضطراب الثاني، وبالتالي لا بد أن يكون فرعون الخروج أحدَ ملوكِ الدولة الحديثة. والملك الوحيد الذي عاش عمراً مديداً وحكم حوالي 66 عاماً هو الملك رمسيس الثاني الذي يميل إلى اعتباره فرعونَ الخروجِ معظمُ الباحثين بل اليهود أنفسهم وصانعو أفلام هوليود.

وأنا شخصياً لا أستطيع تحديد مَنْ هو فرعون الخروج من دون وجود دليل لغوي أو أدلة أثرية تثبت ذلك، ولكن أستطيع أن أقول إن السبب الذي جعل الفراعنة لا يتحدثون عن أنبياء الله الذين زاروا مصر من إبراهيم ويوسف وموسى عليهم جميعاً السلام هو أن المصريين بنوا المقابرَ ورتبوا عقائدهم الدينية والجنائزية ترتيباً استغرق آلاف السنين، نرى في جوهره مبدأ الوحدانية ظاهراً، وفي مظهره الخارجي تعدد المعبودات والآلهة، وهذا النظام لا وجود فيه لأنبياء وديانة واحدة، وسيظل البحث مستمراً عن شخصية فرعون موسى. وفي مقالات قادمة بإذن الله سنتعرض خلالها لأحداث القصة تفصيلياً وآثار بني إسرائيل في مصر..