مأساة الثلث المعطل!

TT

السياسة العربية قادرة دائما على إبهار العالم بكثير من الابتكارات التي لا يعرفها أحد من قبل أو من بعد، ولمن لديه مشكلة مع هذا الوصف فإن واجبه المدرسي هو وصف النظام السياسي الليبي لجماعة من متوسطي الذكاء بين شعوب العالم !. وواحد من هذه الاختراعات هو ما عرفته السياسة اللبنانية تحت عنوان «الثلث المعطل» وهو إضافة جديدة لنظام سياسي معقد بطبعه، ولكن أساسه النظري هو أن السياسة اللبنانية تقوم وفق مفهوم معروف في العلوم السياسية باسم «التوافق» ومشهور في الدول المتعددة الأعراق والطوائف. ولما كان ذلك كذلك، وهنا يأتي الاختراع العربي، فإنه لا يجوز اتخاذ قرار من قبل الأغلبية دون موافقة الأقلية من خلال ثلث «معطل»، أي يكون له القدرة على منع قرار من الصدور، أو باختصار يكون له حق «الفيتو» على كل ما يجري من قرارات.

وفي كل دول العالم فإن السياسة الناجحة هي التي تسعى لتنشيط الجزء «الفعال» من العملية السياسية، أما تحفيز جزء «المعطل»، فذلك والله اختراع جديد لم يخطر على بال بشر، وجاءت حقوقه المحفوظة من جانب حزب الله في لبنان الذي صمم بعد حرب الحزب مع إسرائيل في صيف عام 2006 على الحصول عليه، ولما وجدته الأكثرية نوعا من العبث السياسي نزلت قوات حزب الله إلى بيروت مهددة بحرب أهلية جديدة فخضعت الأغلبية تحت تهديد السلاح، وتولت دولة قطر بعد ذلك ترجمة الاختراع إلى واقع سياسي من خلال مؤتمر شهير جرى في عاصمتها الدوحة، وتم استكماله وسط احتفالات مشهودة جرت في مدينة بيروت لمباركة هذا التحديث في النظرية السياسية. ولكن المعضلة كانت أن الأمر لم يعد له علاقة بالتوافق السياسي، فقد باتت القرارات اللبنانية ترجمة واقعية لتوازن القوى على الأرض بين حزب وحيد مسلح تسليحا أقوى من جيش الدولة، والأخطر أن حزب الثلث «المعطل» بات قادرا على استخدام أدوات الدولة اللبنانية لخدمة أهدافه الخاصة، حيث بات مسيطرا على مطار بيروت الدولي، وعلى مصلحة الجوازات والجنسية، بحيث يكون قادرا على إصدار ما يشاء من جوازات وهويات باسم الدولة اللبنانية تم استخدامها بإفراط في الشبكة الإرهابية التي جرى اكتشافها في مصر مؤخرا.

وبالطبع فإنه لا توجد نية هنا للحديث عن أزمة حزب الله مع مصر، أو متابعة تأثير سيطرة الحزب على الثقة التي يعطيها العالم للمواطنين ورجال الأعمال وحتى السياسيين من لبنان. ولكن ما يهمنا هنا هو متابعة النظرية الجديدة للجماعات والأحزاب الأصولية في تطبيقاتها المختلفة والتي تتميز بالتنوع والتعدد الشديد، ولكنها يمكن إرجاعها جميعا إلى نظرية الثلث المعطل. فما حدث في باكستان هو أن حكومة الأغلبية المنتخبة تعبت من عمليات الضغط العسكري المسلح الذي تقوم به جماعة طالبان الباكستانية، وما تسبب فيه من إحراج للدولة الباكستانية الديمقراطية في علاقاتها بالولايات المتحدة والتحالف الغربي في أفغانستان. ولذلك قررت الحكومة الباكستانية منح حركة طالبان إقليم «سوات» لكي تقيم فيه ما تريد من تطبيق للشريعة الإسلامية، وهو تطبيق جغرافي لفكرة الثلث المعطل، حيث يعطي حقا لمن لا حق له، وفي نفس الوقت فإن الفارق ليس كبيرا بين إقليم سوات، وضاحية بيروت الجنوبية، أو الجنوب اللبناني كله، حيث لا يستطيع أحد أن يتنفس أو حتى يقاوم إسرائيل دون موافقة ومباركة حزب الله. وما حدث في باكستان لم يختلف كثيرا عما حدث في لبنان، فلم يمض وقت طويل على تطوير نظرية الثلث المعطل، حتى بدأت قوات طالبان تخرج بعد تطبيق الشريعة، وفرض المحاكم الشرعية، وإقامة الدولة داخل الدولة، وتقترب من العاصمة إسلام أباد، وتنتشر في أقاليم باكستان المختلفة استعدادا للقيام بالانقلاب العظيم في دولة حدث أنها نووية وبجوار دولة نووية أخرى.

ما حدث في باكستان، ولبنان من قبلها، يكاد يرقى إلى النظرية السياسية المتكاملة للجماعات الأصولية، فقد كان ذلك هو ما فعلته حماس تحديدا في فلسطين، حيث كانت نقطة البداية هي المشاركة في الانتخابات والفوز بها، ولكن أول ما فعلته حماس بعد الفوز كان رفض القواعد التي أعطتها الأغلبية في المقام الأول. ولو كان الأمر مباراة في كرة القدم، فإن العالم كان سيضحك كثيرا على ذلك الفريق الفائز بالكأس إذا كانت أول قراراته بعد الفوز هو تغيير القواعد والأحكام التي تقوم عليها اللعبة. ولكن حماس فعلتها، ولم يكن بإمكان العالم الضحك على مأساة كبرى، فكان الحل هو فكرة الثلث المعطل الذي يقوم على اقتطاع مساحة جغرافية وموضوعية للقرار السياسي. وكان ذلك هو ما فعلته حماس تحديدا عندما قامت بانقلابها في غزة والذي أعطته اسما فلسطينيا مبتكرا هو «الحسم العسكري»، حتى لا يقول أحد إن اللبنانيين وحدهم هم أصحاب القدرة على الابتكار، وإذا كان حزب الله قد سجل حربا مع إسرائيل باسمه فإن حماس لم تقل قدرة لا على الحرب، ولا على تعطيل السياسة الفلسطينية، ولا حتى على اقتطاع مساحة جغرافية تقيم دولة داخل الدولة حتى قبل أن تقام الدولة من الأصل.

وحتى لا يظن أحد أن المسألة لها أصولها المشرقية فإن الواقع الأصولي وتطبيقاته المختلفة كانت ممتدة حتى السودان، حينما جاءت الجبهة القومية بانقلاب عسكري إلى الحكم وتصورت أن بمقدورها جعل السودان قاعدة ثورية في العالمين العربي والإسلامي، وربما حتى العالم الثالث كله، ومن يعرف فقد تكون الدنيا كلها. وفي وقت من الأوقات خلال التسعينيات من القرن الماضي باتت الخرطوم عاصمة الثورة في العالم، وكان ذلك قبل أن تخطف الدوحة هذا الوصف. وكانت مقدمة الثورة واضحة وهي تحقيق الوحدة السودانية في حرب الشمال والجنوب من خلال القوات الشعبية المعبأة بالثورة والفورة، ولكن عندما بات الجنوب عصيا أصبحت النظرية السياسية هي أن القضية ليست الحفاظ على السودان، وإنما الحفاظ على الأصولية الإسلامية في شمال البلاد حتى ولو تم الانفصال للجنوب. وكان ذلك ترجمة لنظرية الثلث المعطل بوسائل أخرى، حيث لم يجر تعطيل القرارات السياسية وإنما جرى إعطاب الكيان السياسي كله، كما حدث في لبنان وباكستان وفلسطين من خلال قاعدة جغرافية لا تمثل كل الدولة كما هو الحال في ضاحية بيروت الجنوبية، أو إقليم سوات، أو قطاع غزة.

النظرية هكذا واضحة، وفيها الكثير من الخيال الذي يخلق تنويعات في التفاصيل، ولكنها تظل النظرية الهادية لكافة الحركات السياسية «الإسلامية» الأصولية، حيث لا تؤمن هي من البداية بفكرة الدولة، ولها إيمان مطلق بفكرة مائعة للأمة لا تسمح بقيادتها إلا لكل ثوري ومتطرف. وهي نظرية قد تعطي منهجا متدرجا أو عنيفا حسب الظروف وتوازنات القوى، وفي وقت استهزأ السيد مهدي عاكف مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر بالدولة المصرية قائلا «طز» عن إيمان بأن فكرة حكم المصريين لأنفسهم ليست من الأفكار المقدسة. وحتى هذه اللحظة فإن الإخوان في مصر لم يصلوا بعد إلى ترجمة مصرية لفكرة الثلث المعطل، ولكن إذا قدر لك الجلوس بينهم فسوف تجد دائما ذلك التساؤل حول لماذا لا تفتح الحكومة حوارا مع جماعة الإخوان المسلمين؟ وبالطبع لن تفهم لماذا يكون الحوار مع الجماعة بالذات، ولا يكون مع قوى سياسية أخرى، ولكنك سرعان ما تكتشف أن القضية ليست الحوار، وإنما هي التفاوض حول مصير الدولة، ومن يعرف كيف ستجري عملية إدارة الثلث المعطل في السياسة المصرية. ولعل ذلك هو ما حاوله الإخوان بالفعل حينما أرادوا للقضية الفلسطينية أن تكون الثلث المعطل في سياسة مصر، فلا تنمية ولا نمو ولا تقدم اقتصاديا، وإنما رقص طوال الوقت على آخر توجهات الثلث المعطل في بيروت أو غزة أو بغداد أو أيا كان الأمر موجها من إيران. ولعل ذلك هو التجديد المصري في النظرية على أية حال!