هذا ليس مقالا عن أغنية الفنانة القديرة وردة الجزائرية التي تقول في أحد مقاطعها: «قال معرفهوش، ما قابلتوش، ولا شفتوش»، بل هو وقفة أمام حديث دار بين الصحافي المصري أحمد المسلماني والأميرة فريال ابنة الملك فاروق، ملك مصر السابق. «هيكل أكد لي أنه على اتصال بك وبالأسرة المالكة؟»، هكذا سأل الصحافي الأميرة فريال، وجاء ردها كالصاعقة: «لا أنا معرفهوش». ولم يسترعِ الأمر انتباه الصحافي خصوصا أن السيد هيكل يملأ الدنيا تحبيرا وأحاديث عمن يعرف ومن لا يعرف من نخب الشرق والغرب. وأخيرا ظهرت إمرأة لا تريد شيئا فقالت وبكل بساطة وصدق: معرفهوش. ولا أستغرب أن يدندن دراويش الأستاذ هيكل في الصحافة المصرية مدافعين عنه بمقطع من الأغنية ذاتها: «قال يعني مش فاكرنا ولا فاكر حب بيننا».
الخبطة الصحافية ليست في لقاء الأميرة فريال أو ما قالته عن رحيل عائلتها من مصر على ظهر اليخت الملكي الموسوم بـ«المحروسة»، فهذا ليس هو اللقاء الأول معها، فقد سمعت على موقع «اليوتيوب» مقابلة لها مع الصحافي التلفزيوني المصري عمرو أديب من قبل، قالت فيها أشياء شبيهة بما قالته للمسلماني، تحدثت عن حياتها في سويسرا وعن أخيها الملك أحمد فؤاد وعن مأساة العائلة المالكة، ولم يكن في ذهنها أي رغبة في التشفي أو الحقد الصغير، قالت شهادة للتاريخ من زاوية الرؤية الخاصة بأميرة تركت القصر وتركت مصر وهي في سن الرابعة عشرة.
الخبطة الصحافية هي أن الأميرة قالت عن صحافي مصر الأول (هيكل) الذي ادعى أنه على اتصال بها وبالعائلة المالكة، حسب ما قال المسلماني: «معرفهوش». هنا لم نسمع هيكل ذاته يقول هذا الكلام بل هذا ما أكده المسلماني أمام الملأ. ولكن بغض النظر، فإن هذا التناقض الصارخ الذي وصلنا كمستمعين ومشاهدين بين القولين (قول هيكل، وقول فريال) يفتح ملفا مهما، فكم ممن تحدث هيكل عن معرفته الشخصية الوثيقة بهم لو سُئلوا السؤال ذاته قد يجيبون بالكلمة نفسها: معرفهوش. هنا يُخلق الشك لدى المتلقي: هل يكون الكلام كله أو ربما أكثره مختلَقا؟ هل نحن أمام أزمة مصداقية للصحافة في مصر، عندما نستمع إلى الأميرة فريال وهي تضرب مصداقية صحافي العهد الناصري الأوحد في مقتل بتلك الكلمة البسيطة التي جاءت كالرصاصة؟
الأميرة، بلا شك، استهدفت مصداقية الرجل الذي يدعي دائما ملكيتة للمعلومة الموثقة. كنا نعرف قليلا من خلال تصريحات الرجل عن مدى عمق صلاته وصدق مصادره، خصوصا بعدما قال إن الصرب هم وراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك 2001. وقد نشرت واحدة من الصحف المصرية مؤخرا مقابلات مع هيكل حول زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى مصر، والتي لم يتابعها هيكل إلا من خلال وسائل الإعلام، فقال كلاما مفصلا «عن فطير مشلتت تناوله أوباما مع العسل الأسود» وكأنه كان يجلس إلى جوار الرجل في إفطاره مع الرئيس المصري حسني مبارك، وتحدث عن أن لقاء أوباما مع الرئيس المصري حسني مبارك لم يستمر سوى عشرين دقيقة. والأكثر سذاجة في ما قاله في هذه المقابلة، مع الاعتذار لاستخدام كلمة «سذاجة» ولكنني لم أجد كلمة أبلغ تعبيرا، هو ما قاله عن أن خطاب أوباما قد عرض على السعودية فرفضت أن يقال من أراضيها وجاءت القرعة على مصر، وكأن إدارة الولايات المتحدة ترتب أولوياتها الدولية بالقرعة لكي تدور حولها أحاديث قرعة (وقرعة هنا بمعناها المصري الدارج، أي بقتح القاف وتسكين الراء). وأنا على ثقة بأنه لو سُئل أي مسؤول في إدارة أوباما عن هيكل وعما قاله في هذه المقابلات، لأجاب إجابة الأميرة فريال نفسها: معرفهوش.
عندما كتبت في نقد الحالة الصحافية في مصر، أطلقت عليها اسم صحافة «عزبة شلبي»، تلك المنطقة العشوائية في مدينة القاهرة ناحية المطرية والتي «تضرب» فيها شاسيهات السيارات المهربة و«التربتيك» لكي تدخل مصر من دون أن يُدفع عليها رسوم جمارك. في عزبة شلبي تشوه السيارات تماما، بمعنى أن يفك «الصنايعية» السيارات ويخلقوا منها سيارات أخرى. الصاج هوندا، والموتور مرسيدس، وعجلة القيادة من سوزوكي.. سيارة تجميع لا يمكن لأي جهاز مرور في العالم أن يعرف أصلها من فصلها، وقلت إن جزءا كبيرا من الصحافة في مصر «مضروب» في عزبة شلبي. عندما كتبت ذلك، قامت الدنيا عليّ ولم تقعد. ولكن ها هي الأميرة فريال، عندما سألها الصحافي المصري عن صحافي آخر ادعى معرفتها، وكان البعض يظن أن ادعاءات هذا الأخير ومصداقيته ماركة عالمية، لم تتعرف الأميرة على الصنف، قالت ببساطة: معرفهوش.
رغم كل هذا، تستحوذ كاريزما هيكل على جيل كامل من بسطاء الصحافيين ممن لم تتح لهم فرصة معرفة العالم، حتى يستطيعوا التمييز ما بين المعلومات وبين الشائعات التي يروجها أحيانا «فتوات» الإعلام الذين يدعون معرفة الكثيرين، والكثيرون لا يعرفونهم. وكنت قد كتبت في ما مضى عن ظاهرة الدروشة حول هيكل في مصر، وأعزو هذه الظاهرة إلى سببين: الأول هو أن صحافة المعلومة لم تحتل مساحة معقولة في العالم العربي بعد، صحافتنا هي في معظمها صحافة رأي وتسريبات ونميمة وترويج لشخصيات بعينها ولأنظمة بعينها. المعلومة هي آخر ما تهتم به هذه الصحافة، مع وجود استثناءات قليلة. أما السبب الثاني، فهو طبيعة الثقافة العربية المعاصرة في دولة ما بعد الاستعمار، ثقافة الفرد الواحد والبطل الواحد.. عبد الناصر في السياسة، وأم كلثوم في الفن، ومحمد عبد الوهاب في التلحين، وعبد الحليم حافظ في الأغنية الذكورية، ونزار قباني في الشعر، وهيكل في الصحافة. لا نقبل في أي مهنة عندنا إلا أن يكون لها زعيم واحد نضعه فوق النقد والتقييم الموضوعي، والبقية تابعون له أو دراويش. وإذا تجرأ أحدنا وقال شيئا في نقد الزعيم كفرناه أو خوناه وطالبنا برأسه. زعماء الفن والصحافة في عالمنا العربي، لهم من المروجين والبلطجية من يطيحون برأسك أذا ما تعرضت لهم. في مصر، مثلا، يمكنك أن تنتقد الرئيس ولا يمكنك انتقاد هيكل أو التشكيك في معلوماته، رغم أنه بشر والبشر يخطئ ويصيب.
ليس لدي شك في أنه بدلا من أن يجد الكثير من الصحافيين في إجابة الأميرة فريال على ادعاءات هيكل، مادة مثيرة للبحث والتقصي عن مصداقية المعلومات التي يغدقها الرجل بكرم على الجمهور العربي بطوله وعرضه، بدلا من ذلك فإنهم سوف يشككون في ما قالته الأميرة فريال لا هيكل، وسيرددون مقولاته من دون تفكر بها وكأنها وحي يوحى. قد يكون هيكل في ما أكده للصحافي المسلماني عن معرفته الوثيقة بالعائلة المالكة المصرية محقا وقد لا يكون، وقد يكون المسلماني هو من استخدم مقولة «الأستاذ» بشكل خاطئ، وقد تكون الأميرة فريال هي التي نسيت علاقتها «الوثيقة» بهيكل الذي قالت إنها لا تعرفه.. كل هذا ممكن، ولكن المهم هو أن تكون لدينا الذهنية القابلة للتشكيك والنقد والتساؤل والمحاكمة المنطقية، وأن تكون لدينا الصحافة التي تسعى وراء المعلومة لا الشائعة، الصحافة الحرة من «الأدلجة» فلا تحكمها إلا الحقيقة. فبدلا، على سبيل المثال وما دمنا في سيرة العائلة المالكة المصرية السابقة، من فتح حوار حول الشائعات التي روجت عن الملكية والعهد البائد والظلم السائد، أن يقوم صحافي مصري باحث عن المعلومة بلقاءات تمثل شهادات على التاريخ مع بشر عاشوا في عهد فاروق، من الخواص أو العوام، سائلا إياهم عن الأسلحة الفاسدة وعن الفساد وامتهان العباد، وعن غيرها من أدوات التعبئة الرئيسية للرأي العام المصري في عهد الضباط الأحرار، لكنا وقتئذ عرفنا شيئا أكثر نبضا ومصداقية من شهود عايشوا بأنفسهم ذلك العهد. ولكننا، للأسف، في زمن لا يلقي للمعلومة بالا، وتخدره الأكاذيب والشائعات، زمن يعتمد في المقام الأول على مقولة وردة في الأغنية إياها: «يوه.. يوه.. هو في حد النهار ده بيفتكر».