العنوان هو عبارة قرأتها في جريدة «الأخبار» اللبنانية في إشارة إلى انسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية في الثلاثين من حزيران الماضي، وكان مفاد المقال هو أن قوات الاحتلال سوف تستبدل زيّها العسكري بزيّ مدني، وسوف تكون على هيئة مستشارين في الوزارات والمؤسسات، وعلى بعد دقائق من أي مركز اتخاذ قرار حيثما وحينما تدعو الحاجة. ولكن العبارة ذهبت بي إلى أبعد مما كان مقصودا منها، إذ تتالت إلى ذهني الأزياء الخطيرة التي يتلبسها الاحتلال في منطقتنا، والتي تخرج عن الأزياء الجسدية لتصل إلى القيم الفكرية، والصيغ اللغوية، والمفاهيم الأخلاقية، والإجراءات القانونية، فقط لأستنتج في النهاية أن لعبة أمم كبرى بدأت تتوضح في منطقتنا مع أساليب جديدة لاستخدام بعض سكان هذه المنطقة أدوات تنفيذية لها، بعد أن نقل الاستعمار نفسه نقلة نوعية من الحروب العسكرية على الحدود إلى العمل الأمني والاستخباراتي والتعليمي والمعرفي والثقافي والأخلاقي لتحقيق الأغراض ذاتها.
وفي نظرة إلى هذه الاستراتيجية الجديدة لا يستطيع المرء إلا أن يدهش لدهاء المخططين، هذه الخطط الجهنمية التي تستهدف مصيرنا نحن، ذلك لأن هذا الدهاء يجعل البعض من بين صفوفنا يستقبل جيوشا وطائرات ومعدات هدفها تخريب وضع داخلي هنا، ووضع الرجل الخطأ في المكان الخطأ هناك، وغسل دماغ البعض بحيث يقتنعون أن احتلال العدو للأرض يمثل مصلحة حيوية لهم ولأبنائهم، وبحيث يصبحون الجند الأوفياء والمبشرين المكرسين لخدمة سياسات العدو وأغراضه الاستراتيجية.
وفي هذا الإطار ألمس قراءتين مختلفتين تماما لكل مجريات وأحداث منطقتنا، قراءة تبثها مراكز البحث التي خططت، وروجت، ومولت الحدث، واستخدمت أقلاما ومفكرين أصبحوا طواعية ضمن صفوف الخطط التي تستهدف شعوبنا على المدى القصير والمتوسط والبعيد، حيث يتراءى لهم أن هذا الاصطفاف هو الأنسب لهم ولأوطانهم. والأزياء هنا متعددة، ومتلونة، ومختلفة الأشكال والأحجام، فمنها الفكري واللغوي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي.
أول هذه الأزياء يتمثل في المفارقة الصارخة بين مخططاتهم لبلدانهم ومخططاتهم لبلداننا، وهنا أيضا استوقفتني صورة لزعماء أوروبيين أحيوا في بودابست في السابع والعشرين من حزيران الفائت الذكرى العشرين لتفكيك المجر للستار الحديدي، الأمر الذي غالبا ما يوصف بأنه الصدع الأول في جدار برلين، وإحدى المراحل الأساسية التي أدت إلى تفكك الكتلة الشيوعية وانهيارها السريع. مقابل ذلك يغض الطرف مسوؤلون غربيون عن أبشع جدار حديدي في التاريخ لأنه نهب الأرض والمياه من الفلسطينيين ويحرمهم من حقوق الإنسان كلها، بينما بنت القوات الأميركية جدرانا في بغداد والموصل، وفي مدن عراقية عدة وبينها، كما تعمل هذه القوات على دفع بلدان عربية على بناء جدران فصل بينها، وعلى ترسيم الحدود بين دول عربية عدة كانت حتى وقت قريب فضاء جغرافيا واقتصاديا وأدبيا وثقافيا وحضاريا واحدا. وبينما يؤيد الغرب المزاعم الصهيونية في العودة إلى قبل ألفي عام، يرفضون جملة وتفصيلا حديث أي عروبي عما كانت عليه العروبة قبل جريمة سايكس بيكو التي أدت إلى تفتيت أوصال العرب وحرمانهم مما للأمم الأخرى من الوحدة الاقتصادية والسياسية والثقافية والبشرية.
الموضوع ذاته ينطبق على المستعمرات الإسرائيلية، التي تقوم على أنقاض مدن وبلدات وقرى وأحياء وبيوت فلسطينية تهدم ويصبح سكانها لاجئين، ويتم جلب يهود من كل أصقاع الأرض لاستعمار فلسطين، أما الفلسطينيون الذين شردوا من بيوتهم، أو هدمت منازلهم فوق رؤوسهم ورؤوس أطفالهم، فلا أحد يمر على ذكر إنسانيتهم، والثمن الإنساني الذي يدفعونه نتيجة للاحتلال والاستيطان، حتى وإن يكُ هذا الثمن في تناقض صارخ لشروط اللجنة الرباعية التي يتغنون بها. وفي الوقت الذي يتحدث فيه بعض العرب عن غياب العدالة التام فيما يحدث للفلسطينيين، فإن دراسة أجراها مركز هيرتيزليا في جامعة تل أبيب، ترى أن أقلية ضئيلة جدا من الإسرائيليين تقيم النزاع من خلال منظور العدالة والأخلاق. فالاستعمار يخطط ويمول وينفذ، والعرب يتحدثون عن قانون دولي وشرائع دولية وعدالة غير موجودة عندما يتعلق الأمر بحقوقهم!
وفي الوقت الذي لا يقيم الغربيون وزنا للعدالة، أو الأخلاق، أو القانون، فإن بعض العرب غارقون في أوهامهم، أن ما يقوم به هذا الاحتلال لا بد أن ينسجم مع أحكام القانون في بلده، التي تنظمها أعراف قانونية صارمة، متناسين أن القانون هو لحماية أبنائهم وليس لحماية أبنائنا، ومؤسساتهم وليس مؤسساتنا، فنغرق في لعبة تظهرنا ساذجين حين نطالبهم بالالتزام بالقانون وتطبيق مبادئ العدالة والحقوق. وأقرب مثال صارخ على هذا يتمثل في التغطية الإعلامية العربية لإطلاق سراح رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني عزيز الدويك من سجون الاحتلال الإسرائيلي، علما بأن اعتقال أي رئيس برلمان في العالم كان كفيلا أن يسبب فضيحة كبرى لمعتقليه، بالإضافة إلى التواطؤ الإعلامي الغربي مع كل ما تريده إسرائيل، بحيث لم تذكر وسائل الإعلام «الحرة» هذه خبر اعتقال الدويك أو الإفراج عنه إلا لماما، فقد كانت العناوين في وسائل الإعلام العربية تدور في الفلك الذي حدده سلفا معتقلو الدويك، فقد تناولت الصحف العربية إطلاق سراح عزيز الدويك تحت عنوانين رئيسين، الأول هو: إسرائيل تطلق سراح الدويك «بعد قضاء محكوميته»، والعنوان الثاني: الدويك ينقل رسالة الأسرى: الحوار والمصالحة والوحدة.
أما العنوان الأول فمعناه أن الدويك كان قانونيا مسجونا لجرم حوكم من أجله وقاضته سلطات القانون الإسرائيلية، وأما العنوان الثاني فهو أن المشكلة تكمن في الانقسام الفلسطيني، وأن الحوار والمصالحة والوحدة هي مطالب الأسرى، كما هي مطالب الشعب الفلسطيني، علما بأن الجميع يعرف أن الانقسام الفلسطيني هو نتيجة تدخلات وإملاءات، وأحيانا تهديدات أجنبية سافرة تلبس لبوس احتلال جديد لم تتوضح معالم صورته بعد للكثير من البشر. لم تتحدث الأخبار التي تناولت إطلاق سراح الدويك عن مسؤولية الغرب في عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات الديمقراطية في فلسطين عام 2005، وأثر هذا التحرك الذي لا سابقة له على الوحدة الفلسطينية، وهذا يعني أن الصبغة الفكرية للمستعمر قد لونت قلم وفكر الضحية.
والزيّ الأخير من أزياء الاحتلال الجديدة الذي أنوي التعرض له اليوم، هو تصميم المصطلحات الدولية التي تتناولها جميع المؤسسات للتخفيف من أثر جرائم الاحتلال ووصفها بـ«القيود»، وتضخيم أثر الفعل المقاوم على المحتلين ووصفه بـ«الإرهاب»، ومساواة الضحية بالجلاد في النتيجة. فمن ذا الذي كان يشير إلى الولايات المتحدة والشعب الفيتنامي «كطرفين»؟ ومن ذا الذي كان يشير إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا «كطرفين»، ويطالب الطرفين بخطوات متوازية للتخفيف من حدة الصراع؟
من هنا تأتي تقارير منظمة العفو الدولية والأمم المتحدة مقصرة أيما تقصير بحق ضحايا احتلال عنصري مجرم يستخدم كافة أنواع الأسلحة المدمرة ضد المدنيين العرب العزل، ولكن أحد الأسباب التي تمكن الاستعمار الغربي من المضي في غيه وظلمه ضد العرب، هو عدم قدرة الضحايا على تحديد الزيّ الذي يلبسه الاحتلال، وكشف هذا الزيّ بما يستحق من وضوح وحسم. فهل حان الوقت لنا جميعا أن نرى أن اللبوس المختلفة للاحتلال الأجنبي، التي تستمر مخططاتها على مدى سنوات قبل أن تغير وجه المنطقة بالشكل الذي ارتأته ربما قبل عقود؟ فنلخرج من التفسيرات الجزئية للأمور لنراها بكليتها ومخططاتها البعيدة المدى والهدف.
www.bouthainashaaban.com