قد لا أكون مبالغا، أو متجاوزا للحقيقة، إن جزمت أن ما أصاب الموساد من خسارة مؤخرا على أيدي الأجهزة الأمنية لدولة الإمارات يساوي في قيمته «نكسة تاريخية» وواقعة فريدة ستسجَّل صفحاتها السّود في تاريخ الجهاز الأمني الإسرائيلي ولفترة زمنية طويلة؛ ذلك الجهاز الذي حاول وما زال يحاول أن يعكس صورة الكيان الذي لا يُقهر ولا يخطئ، والجهاز الذي يمتلك القدرات على تنفيذ أي جريمة متى يشاء من دون أن يتمكن أحد من إيقافه، أو كشفه، أو ملاحقته.. الجهاز الذي يستطيع الوصول إلى أي شخص، ويمتلك القدرة على العمل في أي جزء من أجزاء الأرض من دون قيد أو شرط.
وسأبدأ في رواية المأساة التي حلت بجهاز الموساد في دبي من نقطة واحدة. ففرقة «كيدون» Kidon (رأس الحربة - باللغة العبرية)، التي تم كشف هوية ما لا يقل عن 26 عنصرا من عناصرها من قبل الأجهزة الأمنية في دولة الإمارات، تمثل فرقة النخبة في جهاز الموساد. وأغلب أعضاء جهاز الموساد، باستثناء رئيس الجهاز، لا يعلمون هوية ضباط وعناصر فرقة «كيدون» التي تمثل بحق قلب وروح الجهاز. ومعظم أعضاء فرقة «كيدون» يعيشون حياة مزدوجة تخفي هويتهم الحقيقية عن أقرب المقربين إليهم، ومن ضمنهم أفراد عوائلهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن أغلب عناصر فرقة «كيدون» يعملون في وظائف وهمية كغطاء لإخفاء مهمتهم الحقيقية.
وعناصر فرقة «رأس الحربة» يتم تجنيدهم بنظام خاص ومنفصل عن نظام تجنيد عناصر الموساد الآخرين، وبعزلة عن عناصر الموساد الآخرين يخضع عناصر الفرقة من الرجال والنساء إلى عمليات تدريب وتثقيف مكثفة وغاية في السرية تدوم لفترة طويلة تمتد بين عامين وثلاثة أعوام. وهي المدة المطلوبة لتأهيل عناصر الفرقة قبل الزج بهم في ميدان العمليات الفعلية. ويخضع المرشحون خلال فترة التأهيل لدورات عالية الكفاءة في فن اللياقة والتحمل الجسدي والنفسي، بجانب دورات التأهيل في اللغات واللهجات الأجنبية، وغيرها من فنون البقاء والمراوغة والتمويه ووسائل التغلب على العدو. والهدف الأساسي من برنامج التأهيل المعقد والمكلف ماديا ومعنويا هو تخريج عدد محدود من الأفراد ليخدموا كضباط في صفوف الفرقة الخاصة يوصفون بكونهم أقرب مثال حي لأسطورة «السوبر هيومان» أو «الإنسان الخارق». وسبب برنامج التأهيل المعقد ينبع من طبيعة عمل ومهمات فرقة «كيدون» التي تتولى مهماتها على أراضي دول أخرى، والعمل بما يسمى بـ«البيئة المعادية». فمعظم عمليات الفرقة تدور حول ارتكاب جرائم قتل على أراضي دول أجنبية، مما يعني انتهاكا لسيادة وقوانين الدول، ومحاولة التملص من المسؤولية القانونية والسياسية للجرائم، وهو ما يتطلب جهازا تمتلك عناصره كفاءات عالية ومتميزة في عمليات التخطيط والتنفيذ والانسحاب ومحو الآثار والأدلة.
في أواخر عام 1972، وعلى أثر مقتل أعضاء الفريق الأولمبي الإسرائيلي في ميونيخ قررت الحكومة الإسرائيلية تبني عمليات الاغتيالات الخارجية كجزء أساسي من الاستراتيجية العامة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية. وفي عام 1975 تم اتخاذ القرار بتأسيس فرقة «كيدون» كوحدة متخصصة ومنفصلة تتولى تنفيذ استراتيجية التصفيات الجسدية «لأعداء الدولة» خارج نطاق الأراضي المحتلة. وقد تم إقرار نظام خاص للإشراف على نشاطات الفرقة يتبع بشكل مباشر وحصري رئيس جهاز الموساد، ويقع تحت إشراف وسلطة رئيس الوزراء الإسرائيلي. وبرزت «كيدون» كوريث ميداني لفرقة «القيصرية» التابعة بشكل مباشر للموساد، التي كانت تتولى العمل الاستخباراتي داخل الدول العربية، وتولت مهمة تنفيذ عمليات الاغتيال الخارجي بين عامي 1972 و1975. ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن جميع نشاطات فرقة «كيدون» تكون تحت إشراف وموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي. ولا يتم تنفيذ عملية اغتيال خارجي من دون توقيع رئيس الوزراء على أمر التنفيذ الفعلي. ويشمل الأمر الموافقة النهائية على «إعدام» الشخص المستهدَف، والموافقة على زمن التنفيذ، والأهم من هذا كله الموافقة على مكان التنفيذ «جغرافية العملية» وتحديد الدولة التي سيتم ارتكاب الجريمة على أراضيها.
واليوم تقف الحكومة الإسرائيلية ولجنة المخابرات في البرلمان الإسرائيلي أمام مأزق كبير؛ فعلى الرغم من الرغبة الجامحة التي تدفع بعض أعضاء السلطة التنفيذية والتشريعية بوجوب محاسبة رئيس الجهاز وقيادته على «الأخطاء القاتلة» التي تم ارتكابها في عملية اغتيال المبحوح في دبي، فإن أيادي الحكومة والبرلمان تجاه هذا الأمر مقيَّدة بشكل كبير، فالقيام بمحاسبة أو معاقبة قيادة الجهاز في هذا الوقت ستعني، بشكل مباشر أو غير مباشر، اعتراف إسرائيل بمسؤوليتها عن جريمة اغتيال المبحوح، مما سيكون له تبعات قانونية ودبلوماسية داخلية وخارجية. والأهم من هذا كله أن أي تحقيقات حول عملية المبحوح ستدل على اعتراف رسمي إسرائيلي بفشل جهاز الموساد في مهمته في تنفيذ «الجريمة المتكاملة» في دبي.
وعلى الرغم من نشاطات الاغتيالات المكثَّفة والمتعددة التي تولت تنفيذها الفرقة في جميع أرجاء ومدن العالم، التي يعتقد أنها تقارب الخمسين عملية حتى اليوم، فإن الفرقة نجحت في مهماتها بشكل ملحوظ من دون أخطاء أو خسائر كبيرة. وخلال هذه الفترة الزمنية الطويلة لم يتم الكشف عن هوية أكثر من ضابطين فقط من ضباط الفرقة، وكان ذلك في سبتمبر (أيلول) عام 1997 عندما قامت الأجهزة الأمنية الأردنية باعتقال عنصرين من عناصر الفرقة بعد فشلهما في تنفيذ عملية اغتيال خالد مشعل في أحد شوارع العاصمة عمان. ولإدراك مدى الخسارة التي أصابت فرقة «كيدون» بشكل خاص، وجهاز الموساد بشكل عام في عملية اغتيال المبحوح نشير إلى معلومة مهمة هنا. فالتقديرات السائدة في المجتمع المخابراتي الدولي تؤكد أن مجموع العاملين كعناصر ميدانية في فرقة «كيدون» يتراوح بين 30 و40 عنصرا فقط. وإن صحت هذه المعلومة، وغالبا هي دقيقة، فإننا سندرك مدى الخسارة التي أصابت الفرقة والجهاز الإسرائيلي بشكل عام عندما قامت الأجهزة الأمنية في دولة الإمارات بعملية خارقة أدت إلى كشف وإعلان الصور الفوتوغرافية وصور الفيديو لما لا يقل عن 26 عنصرا من عناصر الفرقة، مع امتلاك بصمات الأصابع وبعض السمات الوراثية لعدد من هذه العناصر. فهذا العدد من العناصر الذي تم كشفه بشكل موثَّق يشكل ما يقارب الثلثين من مجموع كوادر فرقة «كيدون» الكلي. ومن المنظور المخابراتي فإن العناصر الـ26 التي تم كشفها أمست عناصر «محروقة» ومنتهية الصلاحية لا يمكن استخدامها في أي مهمات مستقبلية، وهي عناصر أصبحت ملاحَقة قضائيا على المستوى الدولي، وملاحقة من قبل الصحافة الإسرائيلية التي تسعى لاهثة إلى «سبق صحافي» في نشر أسرار عناصر فرقة «السوبر هيومان» وكشف أسرار الفشل الذريع والمخزي الذي أصاب «رأس الحربة» أو الأسطورة.
على الرغم من نجاح المخابرات الإسرائيلية في قتل المبحوح، فإن هذه العملية كانت أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح. وإن ما حققته دبي في كشف هوية الجناة وتعرية «رأس الحربة»، يمثل ربما أول انتصار مخابراتي عربي ساحق في زمن الهزائم المتراكمة.
* مدير قسم الدراسات الأمنية والدفاعية في مركز الخليج للأبحاث