لم أكتب يوما ضد النظام المصري، ولن أكتب اليوم «شامتا» أو ناقدا أو متشفيا في نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك. فليس في ذلك فروسية وليس فيه أخلاق مهنة: تصمت عنه طيلة ثلاثين سنة، ثم تأتي لتكتب عنه بعدما سقط، ترجمة للمثل: «إذا طاح الجمل، كثرت سكاكينه»؟ لكني لم أكتب يوما أمتدح النظام المصري، ولم ولن أكتب ممتدحا نظاما بعينه، أمتدح سياسات، وأنتقد مواقف، أشيد بنهج وأهجو توجها، لا أعظّم الأشخاص، ولا أمجّد الأنظمة، ذاك هو منهجي ومنهاجي.
هذه المقدمة مختصر رد على صديق مصري عزيز كان يعاتب خلو مقالاتي من الهجوم على سياسات النظام المصري السابق مساندة «للثورة» المصرية. كنت أرى في الصمت عن المديح موقفا يمثل «أضعف الإيمان»، فقررت مبدأ خاصا بالكتابة في السياسة: لا تمتدح من لا تستطيع نقده. فشيك الإشادة المفتوح على بياض، بمثابة شهادة وفاة قلم، وربما مسمار نعش نظام، فمن تمتدح من الأنظمة اليوم، قد يتغير غدا، أو قد يطير بأكمله خلال أيام مثلما جرى في تونس ومصر.
التضحيات الشبابية المصرية في ثورتهم تفوق كل عبارات الإعجاب، وتتجاوز كلمات التمجيد والتعظيم، لكن المحب لمصر ومستقبلها ومستقبل المنطقة برمتها قلق على نتائج الثورة، وخائف على موسم الحصاد. الاسترزاق بالكتابة عوج أقلاما هذه الأيام طالما تغنت بالنظام المصري السابق، وسن حناجر وشحذ ألسنة بالفضائيات تتغنى بالحرية والديمقراطية وتعدد جرائم النظام السابق وانتهاكاته لحقوق الإنسان وقمعه للحريات ونهبه لخيرات مصر، وهي بالأمس القريب، كانت أصواتا مدافعة عن نظام صدام حسين البائد: كانت أقلاما للإيجار، وأصواتا للبيع، وحناجر للإعارة، ومواقف للاستعراض والتأييد لنظام لم يعرف التاريخ العربي الحديث نظاما دمويا ووحشيا أكثر منه، ولا فسادا وظلما وقهرا تميز به.
نفس الوجوه، ونفس الفئات التي وقفت مع نظام صدام حسين حتى بعد سقوطه، تتسابق اليوم لاختطاف العهد المصري الجديد. يسجل لنا التاريخ مصادرة ثورات كثيرة من قبل الانتهازيين وحربائيي المواقف، وها هم اليوم يتسابقون حتى على رئاسة مصر: أحدهم حاول إلقاء طوق النجاة لنظام صدام حسين في سنواته الأخيرة، واليوم يتشدق بقيم الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد وينوي الترشح لانتخابات الرئاسة المصرية القادمة! فضائيات تحولت بين عشية وضحاها إلى منافح صلب عن الديمقراطية والحرية، وأنظمة قمعية لا تخجل عن الإشادة بثورة الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد، وكتاب يعيشون في كنف المخابرات، ويقتاتون على عطاءات أنظمة الشمولية والزعيم الأوحد الفريد البطل، ملأوا محابرهم ليسطروا المقال تلو المقال مديحا للثورة في مواجهة القهر والظلم الذي مارسه النظام السابق بمصر، ويصدق فيهم المثل المصري الشعبي: «صحيح، اللي اختشوا ماتوا».
هل يمكن أن تكون ديمقراطيا محبا للحرية ومدافعا عن حقوق الإنسان في مصر وحدها؟ هل ترتبط الحرية بالجغرافيا؟ وهل للديمقراطية مربط بلد واحد؟
شاع في الماضي تجار الحروب، وتجار الشنطة، وتجار «بتوع التلات ورقات»، واليوم تروج تجارة اسمها «تجار الحرية»، دراسة الجدوى لمشاريعهم التجاسية (التجارية - السياسية) واحدة: اقلب ظهر المجن لمن طاح وولّى، وزايد في شتم نظام مبارك، واحشر صورتك مع الصفوف الأمامية لقياديي الثورة، وفتش لك عن مكان جديد في العهد الجديد قبل فوات الأوان. هؤلاء هم أعداء مصر الحقيقيون، وهم الخطر القادم على مصر الجديدة. يحاولون التذاكي على شباب الثورة، ومصادرة دماء الشهداء لحساباتهم السياسية، والعودة بمصر «كأنك يا بو زيد ما غزيت». فهل ينجحون؟