إن مفهوم الشيء فرع عن صورته الموضوعية في الذهن، بناء على قاعدة: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ومن هنا، كان لا بد من تحرير «مفهوم الدولة الإسلامية وتأصيله».. وهذا المفهوم يتكون من أصول ينهض عليها، ومقاصد يتحراها:
1) الأصل الأول: هو «الإيمان بالله»، إذ يلزم أن تتأسس هذه الدولة على هذا الإيمان القوي الواضح. فليس يصح في هذه الحياة كلها عمل ما - بمعيار منهج الإسلام - إلا إذا تأسس على الإيمان الحق بالله جل ثناؤه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ».. ولما كانت الدولة هي «أعظم» الأعمال الصالحة الجماعية (التي تجري في إطارها ومناخها سائر الأعمال الصالحة الأخرى، من صلاة وصلة رحم وزواج وتعليم وإدارة وإنتاج وإبداع ودفع عدوان)، فإن أعظم الأعمال هو أولاها - بداهة - بالتأسس على الإيمان.. يُضم إلى ذلك أن الدولة الإسلامية - بصفتها هذه - هي دولة عقلانية تنويرية في المقام الأول بمقتضى إيمانها هذا. ذلك أن الإسلام قد جعل مدخل التوحيد والإيمان وأساسهما المكين، البحث والنظر والتفكر والتعقل. فلا قهر في الإيمان ولا إكراه، ولا تقليد أعمى للآباء والجدود.. وثالث المعاني - ها هنا - أن الدولة المسلمة مكونة - في الغالب - من أفراد «مؤمنين» يحبون أن تحكمهم دولة مؤمنة تشاطرهم الإيمان، وتطبق عليهم الشرع الذي آمنوا به واختاروه: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
2) الأصل الثاني هو «الدولة من أجل الإنسان»، وهو أصل متكامل متناغم مع الأصل الأول. فإن الإيمان بالله ليس فيه مصلحة لله - تعالى عن ذلك - فلو كفر أهل الأرض جميعا ما نقص ذلك من ملكه، ولا مجده شيئا. ولذا فإن الإيمان بالله إنما هو لـ«خير» الإنسان ورقيه وسعادته: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».
ولما كانت الدولة من أجل الإنسان، فإن محور عملها، ومناط سعيها يجب أن ينصب على رعاية حقوق الإنسان، والتفنن في خدمة مطالبه وحاجاته.
أ) أول هذه الحقوق - بإطلاق - هو «حق الحياة»، إذ هو الحق الذي ترتبط به سائر الحقوق الأخرى ارتباط وجود، وارتباط تمتع.. ومن هنا فحرام على الدولة الإسلامية أن تهدر حياة الإنسان بدون حق (والحق ها هنا هو القصاص من القاتل. وفي هذا القصاص نفسه صيانة لدم الإنسان وحياته).. وفي هذا المضمون الحقوقي فلسفة تناهت في العمق والواقعية. فحين يهدر حق الحياة، تسقط - تلقائيا - قيمة الحقوق الأخرى - كالحرية مثلا - إذ لا يستطيع ميت أو مقتول أن يطالب بالحرية. والسبب بدهي وهو: أنه ميت غير موجود!
ب) «حق الكرامة».. بحكم أن الدولة الإسلامية «مؤمنة» بالقرآن، فإنها ملزمة بإنفاذ تعاليمه في تعاملها مع الناس بكرامة، ملزمة بذلك بموجب النص القرآني: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا».. ومن صميم كرامة الإنسان أن يأمن ولا يروع، وأن يشبع ولا يجوع، وأن يحترم ولا يهان، وأن تصان حرمته ولا تنتهك.
ج) «حق العدل».. فمن وظائف الدولة الإسلامية أن تقيم العدل: «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»، وإلا فهي شاذة عن الناموس الكوني العام المحكوم بميزان العدل «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ».. نعم. كما انضبطت حركة الكون كله بالميزان الكوني، ينبغي أن تنضبط حركة الدولة المسلمة بميزان العدل التشريعي.. والعدل - ها هنا - مطلق مع كل الناس. فلقد تواطأ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمون على إلصاق تهمة السرقة بيهودي. بهدف تبرئة السارق الحقيقي (المسلم) من التهمة. هناك تنزل الوحي على النبي بالانتصار لليهودي البريء. تنزل الوحي بتسع آيات بينات في سورة النساء بدئت بقوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا»، أي ولا تكن محاميا مدافعا عن الخونة السارقين ولو كانوا مسلمين.
د) حق المساواة الإنسانية في أصل النشأة والتكوين، وهو حق يجتث العنصرية ويبطل دعواها.. وبرهان هذا الحق هو: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ»، و«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً».. فالأصل الأول هو النشأة المتساوية من الطين.. والأصل الثاني هو: الانتساب المتساوي لآدم وحواء. فليس في الدولة الإسلامية «عنصرية» من أي نوع، لا عنصرية بين عرق وآخر فهذه تفرقة باطلة. ولأجل إبطال هذه التفرقة احتفى النبي في دولته ببلال «الحبشي» وسلمان «الفارسي»، وبالمولى «أسامة بن زيد».. ثم لا عنصرية بين الرجل والمرأة، فالقرآن ينص على أن «بعضكم من بعض»، فلا مجال - ألبتة - للعنصرية الكريهة بين الرجل والمرأة.
3) الأصل الثالث هو «دولة الشورى لا الاستبداد».. لو كان يحق لحاكم أن يهدر آراء الناس لكان النبي أحق الناس بذلك لأنه مؤيد بالوحي ومعصوم لا ينطق عن الهوى، بيد أن النبي لم يفعل ذلك - حاشاه - إذ أمره الله تعالى بمشاورة الناس: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ».. ومن الدلالات العلمية والعقلية في ذلك أن ما دون النبي لا يحق له - ألبتة - وتحت أي ذريعة أن يتفرد بالرأي، ويعطل الشورى.. ومن تقدير الإسلام لتطور العصور، وصور الحياة أنه لم يحدد صورة واحدة معينة للشورى يلتزم بها المسلمون في كل بيئة وعصر، وإنما ترك التفنن في صور تطبيق الشورى لاجتهاد المسلمين في كل عصر.. ونحن واثقون بأنه لو استبحر الاجتهاد في الشورى وصيغ تطبيقها - المناسبة لكل عصر - لما قام عند المسلمين حاكم مستبد. بيد أن المحزن جدا أن هذا الاجتهاد غاب، وترتب على غيابه أزمات ماحقة: أزمة الاستبداد، وأزمة «المرج السياسي» الذي وقع فيه المسلمون - حكام ومحكومون - وأزمة الفتنة بشعارات الديمقراطية الغربية التي ما فتئ دراويشها يرفعون شعارا دجالا «الديمقراطية دواء لكل داء»!