حذرت مسبقا من التفاؤل بتحقيق أحلام الديمقراطية للأمم التي انتفضت، بداية من تونس وحتى اليمن؛ بل تغلب التشاؤم على التفاؤل الحذر. ليس لأن بشر هذه الأمم لا يتقبلون الديمقراطية، بل لضرورة تغيير الـ«سوفت وير» (software) أو برامج التشغيل إذا ما تصورنا أن المزاج العام هو شبكة أجهزة كومبيوتر من الأمزجة الفردية (mind set).
مصر أقدم ما يعرف بالدولة الأمة (nation state)، بالحدود نفسها والشعب نفسه لآلاف السنين، والثورة الوحيدة بالتعريف العلمي كانت 1919 ولم تعقبها ثورة أخرى. فرغم عظمة الأيام الأولى لثورة اللوتس في يناير (كانون الثاني) 2011، فإنها فشلت في تغيير النظام. ومصر بتاريخها، وبمؤسساتها، وبإمكانياتها، وبتجربة النظام التعددي البرلماني الدستوري (إنجاز ثورة 19)، دخلت نفقا مظلما، فما بالك ببلدان تتعثر فيها الانتفاضة في أرجل الثوار أنفسهم، أو تصطدم بآلة حرب الديكتاتورية الفاشية؟
ويعود عجز شعوب المنطقة عن تحقيق المستوى الأدنى من الديمقراطية – ولا أقول الكاملة التي توصلت إليها شعوب شرق أوروبا في غضون أشهر من سقوط سور برلين - إلى ثلاثة أسباب:
الأول: غياب نماذج سابقة لديمقراطية برلمانية دستورية تتغير فيها الحكومة بالانتخابات (باستثناء مصر 1922 - 1954؛ وشبه برلمانية دستورية في العراق 1925 – 1958، وقد مُحيت الذاكرتان).
الثاني: أنظمة تعليم تستأصل غرائز الطفل الطبيعية كالاجتهاد لفهم المجهول وحب الاستطلاع والاكتشاف؛ وتصنع قالبا تصب فيه ملايين العقول نسخة طبق الأصل؛ وتوحد منهج تحديد العدو الأبدي (إسرائيل) لتحويل الطاقة من الإبداع إلى الكراهية، ومن مطالب الإصلاح إلى الاستعداد للحرب.
الثالث: تفريغ الدين من مضمونه الروحي ليصبح أداة سياسية مكملة لنظام التعليم لاستمرار تقييد العقول بعد مرحلة الدراسة حتى لا يتطور المجتمع خارج سياق تصور محركي خيوط الدين السياسي لما يكون عليه مجتمع السلف الذي يكفر الديمقراطية كبدعة ضلال صليبية، ويحدد هويته بمسافة كراهيته من العدو (غير المسلم).
في بلدان شمال أفريقيا - والشرق الأوسط - الأنظمة الجمهورية ثلاثة نماذج تعادي الديمقراطية: ديكتاتور عسكري أسس حزبا سيطر على الدولة (الناصري - الوطني المباركي)؛ أو بلطجي ترأس حزبا يتبادل المصالح مع العسكر (تونس)؛ أو يمثل تحالفا قبليا، وقد يمزج حالتين (البعثان العراقي والسوري، والقذافي) أو الثلاث (اليمني).
تتفاعل الأسباب الثلاثة في محصلة تشكل سدا يحول سريان نهر التطور من مجراه الطبيعي في تاريخ الأمم. وليست الحكومة فقط هي من يرى الديمقراطية بعيني تمثال من الثلج ينظر لأشعة الشمس. الديمقراطية تذيب السيطرة الأبوية الذكورية لزعيم القبيلة؛ ومهما ضحى الجنرال الوطني في الحرب سيرفض ديمقراطية الخضوع لمدني انتخب وزيرا للدفاع.
ويتحالف النموذجان مع الدين السياسي ضد تهديد الديمقراطية (اختار المجلس العسكري مفكري «الإخوان» لصياغة الدستور). فالولي الفقيه يفتي بتكفير نظام يشكك في شرعيته الكهنوتية. وتسييس الجماعة للإسلام هو كهنوتية اجتماعية لدين لا كهنوت فيه. فشعار «الإسلام هو الحل» هو تحريم لمبدأ إقالة المواطن «للحاكم بأمر الله» في الانتخابات.
بعد أيام من سقوط حائط برلين تبخرت 45 سنة من الشمولية الديكتاتورية (التي اعتبرت مبادئ الرأسمالية كفرا آيديولوجيا)، ليحتضن الألمان الشرقيون السوق الاستهلاكية بنظامها البرلماني الديمقراطي.
ربيع أوروبا كان حقيقة وليس ماركة «فالصو»، فكل أوروبا الشيوعية بلا استثناء – وبلدان سوفياتية سابقا كدول البلقان - اليوم ديمقراطيات برلمانية.
في لمحة بصر عبرت الشعوب هوة نصف قرن (1939 - 1989) من ضفة الشمولية إلى ضفة ديمقراطية ما قبل الحرب العالمية الثانية. وهو ما ينقص بلدان الشمال الأفريقي والشرق الأوسط التي لم تعش تجربة ديمقراطيات برلمانية؛ باستثناء مصر منذ وزارة سعد باشا الأولى عام 1922 حتى دمر عسكر يوليو (تموز) الديمقراطية.
فلماذا تعجز مصر اليوم عن عبور المسافة الزمنية نفسها التي عبرتها أوروبا الشرقية؟ السبب تفاعل نظام التعليم (بدأه وزير معارف الانقلاب الصاغ كمال الدين حسين 1958) مع حركة إسلام سياسي (توظف سبل السياسة اللاأخلاقية بما فيها الإرهاب والكذب على النفس قبل الآخرين) عرقلت إبداعات الفن، الذي يرقى بالمستوى الروحي للإنسان. ففي أحلك ظروف القهر السياسي ظل مستوى التعليم في الكتلة الشيوعية راقيا يعتمد البحث العلمي لا الغيبيات.
وباستثناء التدريب الآيديولوجي (للكوادر السياسية للحزب الشيوعي)، فإن بقية المناهج من علوم ورياضيات وأدبيات ظلت بمستويات بريطانيا وأميركا. بل فاقت الفنون الكلاسيكية كالأوبرا والباليه والموسيقى مثيلاتها في الغرب (ولعل المأساة الرمزية لانحطاط الفنون ما حل بالأوبرا التي شيدها الخديو إسماعيل عام 1869 لتحترق بعد «عبور أكتوبر» الذي يراه المصريون أوج انتصار نظام 23 يوليو).
الكنيسة كانت المعارض الأكبر للنظام الشيوعي (دورها مثلا كساحة تجمع لحركة تضامن النقابية في بولندا)، ورغم ذلك لم تخرج منها زعامات تقود حزبا سياسيا. حافظ رجال الدين على دورهم الروحي بالدعوة لمكارم الأخلاق والسلام ونبذ العنف. ولم نسمع درس وعظ أو خطبة صلاة الأحد تدعو إلى تأسيس الجمهورية المسيحية بولاية الكاردينال الفقيه.
ثوار ربيع أوروبا الشرقية المطالبون بالديمقراطية كان من الطبيعي أن يتجهوا للكنيسة والدين طلبا للهداية الروحية بعد قوانين الديكتاتورية الشيوعية بمنع الدين. رجال الكنيسة بدورهم قدموا النصيحة الروحية داعين للمحبة والتسامح وعدم اللجوء للعنف، ولم يقدموا نصائح سياسية أو فتاوى دينية؛ ولم يفرضوا أو يحرموا ملبسا أو مأكلا أو شرابا. وبعد انهيار الشيوعية لم يتدخلوا لنصرة حزب أو مرشح أو نصح الناخب بكيفية التصويت.
لم تتسامح شعوب أوروبا الشيوعية مع عدو الأمس فحسب، بل شاركته وانسجمت معه اقتصاديا من أجل الرفاهية والرخاء. عملة العديد من بلدان حلف وارسو اليوم هي اليورو، ونظامها الاقتصادي الرأسمالية، وانضم بعضها لحلف الناتو الذي كانت صواريخه النووية تهددها بالمسح من فوق الخريطة بالأمس القريب.
في مصر نجح نظام التعليم في محو ذاكرة النظام البرلماني (1922 - 1954)؛ وبمساعدة الإسلام السياسي والعسكرتارية وبقية مناهضي الديمقراطية، قتل التعليم غريزة التعايش السلمي مع جيران تعاهدوا على السلام.
وما يبدو من تسليم المستقبل للظلاميين ودعاة الفاشية الدينية (باستباق الانتخابات البرلمانية للرئاسية وقبل صياغة الدستور) هو انعكاس لمحدودية الإبداع الذهني للعسكر، وعذرهم أنهم بدورهم تخرجوا في مفرخة «التربية والتعليم» نفسها. فالأذهان لم تدرب على الاجتهاد والتفكير المستقل، بل على تقبل إرشادات النص من المعلم، أو فتاوى من تسربل بعباءة الدين. ولذا لا حاجة للنظام، المستمر جوهرا، في تزوير انتخابات تضمن الأسباب الثلاثة أعلاه نتائجها مقدما.