الثورة عمل إبداعي.. وكل إبداع يولد من القديم علاقات جديدة للنفس والعالم فيتسع مجال الرؤية وننطلق إلى فضاءات أرحب. فما يجعل الشاعر شاعرا هو قدرته على تشكيل علاقات جديدة بين مفردات معروفة فتأخذنا الدهشة.. هذا التوليد لم يحدث حتى الآن على الرغم من الثورات العربية مما يخيفني على مصيرها. فالثورة تبدأ في العقل وفي اللغة. طريقة حديثنا عن أنفسنا وعن العالم هي التي تشكل هذا العالم، واللغة الحرة تخلق عالما حرا.. فلا تولد الحرية من رحم لغة تسلطية، أي لغة تسلطية، سواء أكانت لغة عربية أم غير عربية، حتى لا يتهم قُطاع طرق القول بما ليس منا أو فينا. لغة الثورة هي لغة الديكتاتورية بالمقلوب حتى الآن. فعندما أتمعن فيما أسمع وأقرأ في لغة المصريين مثلا بعد الثورة، تقفز إلى ذهني كرتونة البيض؛ حيث الحفر المحددة التي توضع فيها كل بيضة. البيضة لا بد أن تكون بمقاس الحفرة سابقة التجهيز وليس العكس. وهكذا أصبح كلامنا كالبيض يناسب تلك الحفر الموجودة في الكرتونة. وفي كل أجهزة تسجيل الصوت من المخ البشري إلى الأسطوانات القديمة والمدمجة، هناك حفر اللغة (grooves) التي يسكن فيها الكلام، والتي صممت عليها فكرة الـ«تمبليت (template)» أي: ذلك النموذج المعد سلفا لكي تركب الأمور على مقاسه. الـ«تمبليت» هو تعبير عن «سوفت وير» محدد. ويبدو أن الـ«سوفت وير» العربي، على الرغم من الثورات، لم يتغير، هو مجرد كلام أملس مثل البيض يوضع في الكرتونة ذاتها ولكن بلون جديد. كرتونة الثورة، وأيا ما كان اسمها، الثورة أو الربيع أو الخريف، فهي كرتونة في نهاية الأمر. ففي مصر، تقرأ الصحف وتشاهد التلفزة وتسمع الراديو، فتسمع المفردات ذاتها والعلاقات اللغوية نفسها كما كانت قديما في أيام مبارك، فقط تحذف اسم مبارك وتضع مكانه المجلس العسكري وترى البيض في مواقعه بعد ذلك في الكرتونة ذاتها وتكاد تسمع صياح الديكة أيضا، على الرغم من أن الديك ليس هو الذي يبيض.
كيف يمكن أن نسمي أي ثورة بالثورة إن لم تستطع أن تخلق لنفسها لغة جديدة وعلاقات جديدة؟ فرحنا بشعارات مثل «الشعب يريد»، وظننا أنه ميلاد للغة جديدة، وفرح دعاة الفصحى بأن الشعار فصيح.. فلم يكن مثلا «الشعب عاوز»، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ صودرت اللغة التي استبشرنا بها جديدا، وعادت اللغة القديمة المهترئة لترتدي ثوب الثورة الجديد. ما أقبح اللغة القديمة وهي تحاول ارتداء ثياب جديدة.. تمشي المقولات القديمة في لغة أوسع منها كتلك الطفلة التي تلبس حذاء أمها، وحالة الارتباك الناتجة عن لبس حذاء أوسع مثيرة للشفقة والضحك، الفارق بين الحالتين هو أن الطفلة بريئة وجميلة على عكس هذه المقولات والأحاديث.
هل من الممكن أن تتحرر لغتنا من كرتونة البيض في العالم العربي؟ ظني أن ذلك غير ممكن إلا بثورة ضد اللغة الميتة كجرأة شباب الثورات على التظاهر، الثورة على اللغة يجب أن تبدأ بالنقد الحقيقي دون الخوف من مخالفة التيار العام مهما كان تصلبه وتحجره، الجرأة في أن أقول مثلا إن قصيدة «القدس عروس عروبتكم» ليست شعرا مع أنها لشاعر من الطراز الرفيع، هو مظفر النواب، الجرأة في نقد النواب مهما كانت الهالة «المقدسة» التي تحيط به. وهو في الحقيقة شاعر مبدع في العامية العراقية الراقية وفي الفصحى ولمن لم يقرأه في الفصحى فقط أنصحه بقراءة قصيدة «لحظة في حمام امرأة أموية ساخنة». فأنا أرى أن الشعر الذي يتكئ على عكاز القضايا السياسية الملتهبة ليس شعرا بل هو شعارات وخطب. وهذا ما كان يدفع محمود درويش دائما إلى التذكير في مقابلاته الأخيرة، عندما يوصف بأنه شاعر القضية الفلسطينية، بأنه شاعر وفقط، وهذا لا يعني أن درويش كان قد تخلى عن فلسطين التي كانت أصل كينونته، لكنه، كشاعر، يدرك أن الشعر حالة إبداعية كبرى تحلق فوق أي صفة تريد أن تلصق بها. ولطالما بيننا نفر سيصيحون: «عندك.. لا تمس بالمقدس من شعرائنا»، فظني أن موضوع الثورة على اللغة غير وارد على الأقل في السنين العشر المقبلة.
في بداية حياتي، عندما كنت أتلمس خطاي على طريق الكتابة، سألت أحد الكتاب اللامعين وقتها النصيحة، فقال لي: «عليك بقراءة عباس محمود العقاد وفريد أبو حديد». وتركت النصيحة جانبا، وعدت لقراءة الرجلين بعد حصولي على شيء من العلم بعد الدكتوراه، فوجدت أن معظم مؤلفاتهما لا تعدو كونها نظما للكلمات ورصها كما يُرص البيض في الكرتونة، لا مفاجأة لغوية ولا فكرية هناك، طبعا هنا أنا دخلت في المحظور، فكيف لي أن أتناول كاتب العبقريات بأي شيء من النقد؟ هذا رأيي، فالعقاد، على عكس ما يكتب الأستاذ أنيس منصور، الذي أحب كتاباته، كان مثقفا عاديا، أهميته قد تكون في انفتاحه على المترجم من أعمال النقاد كتوماس كارليل أو إيه ريتشارد، وغيرهما، لكن الرجل فكريا كان عاديا جدا.
الثورة في اللغة تفتح كوة على عالم جديد. الثورة في لغة الأدب ولغة الصحافة ولغة السياسة ولغة الشارع اليومية. أعرف أن في هذا استفزازا للبعض، ولكن إن لم نستطع الحديث عن أيقونات صنعناها بلغة محدودة وبقينا أسرى لأفكار عادية أضفينا عليها قدسية فقط بالتكرار والتجمهر حولها، وإن لم تنجح الثورات في تغيير اللغة وتغيير الـ«تمبليت» ومعهما الـ«سوفت وير» بالتبعية، فلن تكون هناك تعددية سياسية وثقافية عندنا، ستكون عندنا تعددية في الزوجات فقط وليس في الثقافة والسياسة!