يصعب على أي متابع لمسلسل المصالحة السياسية - المتعثرة أبدا - في لبنان الافتراض أن تأجيل موعد الاجتماع الأخير لطاولة الحوار الوطني «إلى أجل غير مسمى» مجرد قرار ظرفي يمكن العودة عنه بسهولة في هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها «كونفدرالية الملل والنحل» في لبنان.
لذلك تعتبر مقاطعة «أصحاب الدار»، أي أقطاب «14 آذار» الغيورين على الدولة ومرجعية الدولة، الدعوة الأخيرة للحوار موقفا متسرعا في ظل الظروف الصعبة والمعقدة التي يمر بها لبنان في الوقت الحاضر.
بإمكان «الدولة» في لبنان أن تقول اليوم: من بيت أبي ضربت.
مع ذلك، وبمنظور محض تكتيكي، قد يكون موقف «14 آذار» مبررا، خصوصا أن كل مقررات طاولة الحوار السابقة التي انعقدت في 25 يونيو (حزيران) الماضي ما زالت تنتظر التنفيذ سواء لجهة دعوتها للتهدئة الأمنية والسياسية أو لجهة تعهدها بتحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية.
أما بمنظور استراتيجي، وعلى الرغم من أن قرارات لقاءات الحوار الوطني تبقى عادة حبرا على ورق، فهي لا تخلو من عامل إيجابي يصح إدراجه في خانة «شراء الوقت»، ولو «بعض الوقت» لإتاحة الفرصة للبنانيين لمواصلة تعلقهم بـ«حبال الهواء» وانتظار الحل الخارجي لمشاكلهم الداخلية.
إعراض أقطاب «14 آذار» عن مبادرة «شراء الوقت»، لأسباب سياسية ضيقة، قرار يتعدى في ظروف لبنان الراهنة حدود المقاطعة إلى عملية «سحب البساط» من تحت أقدام دولتهم، وتحديدا رئيس دولتهم، على الرغم من تعهدهم ببيان مكتوب صدر بعد اختتام جلسات الحوار السابقة على اعتبار التصور الذي سيقدمه الرئيس ميشال سليمان عن الاستراتيجية الوطنية الدفاعية «منطلقا للمناقشة» في جلسات الحوار المقبلة - أي المقاطعة اليوم.
وهنا البعد المحبط لقرار المقاطعة، فالرئيس سليمان كان قد أعلن بوضوح بعد جلسة الحوار السابقة، وبمناسبة زيارته للأرجنتين في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أنه يسعى إلى نزع السلاح غير الشرعي في لبنان «أكان من حزب الله» أو من «القوى السلفية» تمهيدا لإعادة الاعتبار للمرجعية الأحادية للدولة - أي السعي لتحقيق أقصى ما يتمناه أقطاب «14 آذار» والأكثرية الساحقة من اللبنانيين. ولكن، عوض أن تكون «قوى الأمر الواقع» المتضررة من إعادة الاعتبار إلى الدولة هي رأس حربة المتصدين لمسعى الرئيس اللبناني، تبرع «أصحاب الدار» بإنجاز هذه المهمة مجانا ومد عمر «هيمنة» دويلات المذاهب على الدولة المركزية الواحدة.
بعد فشل جلسات الحوار أصبح المستقبل القريب واضح المعالم بالنسبة للبناني العادي: لا قرار ولا استقرار للبنان قبل نهاية الأزمة السورية التي تحولت، بدورها، إلى «أم الأزمات» في بلدهم كما في المنطقة. وإذا كان هذا التطور لا يخلو من مخاطر على أمن لبنان واستقراره، فإن خطورته لا تعود إلى الحساسيات السياسية والمذهبية التي تثيرها الأزمة السورية بقدر ما تعود إلى تحوله إلى قضية انتخابية داخلية، إن لم يكن «القضية الانتخابية» في لبنان.
في أي دولة تمارس اللعبة الديمقراطية بنزاهة وتسلم بنتائجها بصدر رحب.. لا مشكلة في مثل هذا الاصطفاف الثنائي. ولكن مشكلته في لبنان تعود إلى استعداد اللبنانيين لأن يكونوا وقود حروب الآخرين على أرضهم، ما يعني أن ديمقراطيتهم الهشة قد لا تملك المناعة الكافية لأن تتجاوز بسلام امتحانها الداخلي - الإقليمي الدقيق في ظل تحول «أم الأزمات»، باطراد، إلى خط تماس ملتهب بين الفريقين المتنافسين على السلطة.
هذا الوضع فرض على لبنان أن يعيش اليوم سباقا محموما بين استحقاقين: الانتخابات البرلمانية وتطورات الثورة السورية، ما يعني أن انهيار النظام السوري قبل موعد الانتخابات اللبنانية في يونيو (حزيران) المقبل سيكون العامل المرجح لفوز التيار المؤيد للثورة السورية خصوصا قوى «14 آذار».
ولكن السؤال يبقى: هل يصح هذا الرهان، وحده، مبررا لمقاطعة «14 آذار» دعوة الحوار الوطني؟