يتفاوت مستوى التفاعل النفسي أو البدني مع العوامل التي يمكن أن تصيب أيّا منهما بالخلل أو الاضطراب، وبالتالي لا نستطيع أن نعمم توقعاتنا إزاء نتائج مواجهة الإنسان للظروف المرضية نفسها التي يواجهها إنسان آخر، ذلك أن الأمراض النفسية أو البدنية هي نتائج لتفاعلات متنوعة بين مؤثرات خارجية وعوامل عدة في أجهزة وأعضاء الجسم.
وفي الواقع المشاهد، نرى أن ثمة من يقدم على محاولة الانتحار حال مواجهة ظرف معين في حياته، بينما لا يقدم على الفعل نفسه شخص آخر يواجه المشكلة نفسها. وكذا في حالات نزلات البرد أو الإنفلونزا، نرى منْ ترتفع درجة حرارة جسمه ويعاني من مضاعفات في الجهاز التنفسي، بينما تمر تلك الأزمة الصحية بشكل أخفّ على شخص آخر. ومن الجوانب المهمة في علم الطب البحث في العوامل التي تجعل المرء أكثر عرضة للمضاعفات مقارنة بغيره عند التعرض لظروف مشابهة.
الباحثون من جامعة هارفارد بحثوا في مدى عمق التأثيرات النفسية لفقدان الوظيفة، ونشروا نتائج دراستهم ضمن عدد 19 يونيو (حزيران) الحالي لـ«المجلة الدولية لعلم الأوبئة» International Journal of Epidemiology. وقارن الباحثون في دراستهم بين مستوى عمق التأثر بفقدان الوظيفة على أكثر من 38 ألف شخص في الولايات المتحدة و13 دولة أوروبية، هي النمسا وبلجيكا والدنمارك وفرنسا وألمانيا واليونان وإيطاليا وجمهورية التشيك وهولندا وبولندا وإسبانيا والسويد وسويسرا. وقام الباحثون بتجميع البيانات المتعلقة بتأثيرات فقدان أولئك الناس وظائفهم في ما بين عامي 2004 و2010.
ولاحظ الباحثون في نتائجهم أن تأثيرات فقدان الوظيفة كانت أعمق لدى العاملين الأميركيين مقارنة بالأوروبيين، وتحديدا كان العاملون الأميركيون أكثر عرضة للاكتئاب حال فقد وظائفهم مقارنة بأقرانهم الأوروبيين حال تعرضهم لهذا الظرف الحياتي نفسه. وكان أيضا الأميركيون العاطلون عن العمل أشد تأثرا حال إقفال أماكن عملهم وتوقفها عن العمل. وعلق كارلوس ريمالو هيرل، طالب الدكتوراه في جامعة هارفارد والباحث الرئيس في الدراسة، بالقول: «تأثيرات فقدان الوظيفة في الولايات المتحدة أقوى بكثير لدى أولئك المعدمين أو الذين لديهم ثروة ضئيلة مقارنة بأولئك الأكثر ثراءً من بين الأميركيين، وكان تأثير فقدان الوظيفة بينهم أقوى في حالات إغلاق المصنع، وذلك كله بالمقارنة مع ما يجري في الدول الأوروبية». وأضاف موضحا: «مستوى الثراء أو عدمه لم يكن عاملا قويا في تحديد مستوى التفاعل النفسي لدى الأوروبيين حال فقدان الوظيفة مقارنة بالأميركيين».
وأفاد الباحثون أن فقدان الوظيفة لدى الأميركيين ارتبط بارتفاع نسبة الاكتئاب بمقدار 4.8 في المائة، والنسبة لدى الأوروبيين كانت أقل من هذا الرقم بمقدار نحو 35 في المائة، وتحديدا 3.4 في المائة. وارتفعت نسبة الاكتئاب حال فقدان الوظيفة المترافق مع إغلاق مكان العمل، وبلغت نسبة الاكتئاب في هذه الحالات لدى الأميركيين الفاقدين لوظائفهم نحو 28 في المائة، بينما كانت نحو سبعة في المائة لدى الأوروبيين المتعرضين لهذه الظروف نفسها.
وحاول الباحثون عرض شيء من التفسيرات لهذا التباين الواضح في درجة التفاعل النفسي مع فقدان الوظيفة، إلا أنهم اعترفوا أنه من السابق لأوانه تحديد الأسباب لأنها تحتاج إلى بحث علمي منهجي. وعلى الرغم من هذا، فإن الباحثين أفادوا أن هناك عوامل ربما لها تأثير في تخفيف شعور الأوروبيين بالاكتئاب حال فقدان الوظيفة، منها احتمال التأثير الإيجابي لتوفر برامج الدعم الاجتماعي في الدول الأوروبية، التي ربما تخفف من تأثيرات فقدان الوظيفة على الأشخاص وعلى عائلات الأشخاص الأقل ثراء وغير مدخري المال لوقت الأزمات. وعلقت الدكتورة ليزا بيركمان، بروفسورة السياسات الصحية في جامعة هارفارد، على البحث في المجلة المذكورة آنفا بالقول بما مفاده أن «فقدان الوظيفة تجربة مريرة بعمق. ومع تحول الاقتصادات العالمية باتجاه العولمة، فإن من الضروري البحث في كيفية تنمية المرونة الشخصية والمجتمعية. وهذا البحث الجديد مفيد في هذا الاتجاه».
* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض