لو بحث كل منا في تاريخه الشخصي بصدق لاكتشف مجموعة من الأسرار الصغيرة التي لم يأتمن آخر عليها. أبسط هذه الأسرار هي بعض الطقوس أو العادات التي لا منطق لها ومع ذلك يتمسك بها بحزم وقناعة لا تتزحزح.
أحد أسراري تلك هي أنني احتفظت طويلا بقلم حبر كنت لا أستخدم غيره في الامتحانات وأتصور تصورا غير مفهوم وغير مبني على حقيقة أو دليل أنني لو لم أستخدمه سيكون الفشل من نصيبي، ولو استخدمته نجحت نجاحا مثيرا للإعجاب. لم يخطر في بالي مثلا أنني كنت مجتهدة ولا يدخل الرسوب دائرة الاحتمالات ربما لأنني أنتمي إلى أسرة كانت تعد نجاح الطالب والطالبة من المسلمات التي لا يمكن التنازل عنها، خصوصا أن احتياج الطالب ملبى طوال شهور العام الدراسي. ومن هذا المنطلق يصبح النجاح واجبا لا تهاون فيه.
المهم هو أنني عثرت على علبة عتيقة مكسوة بذرات التراب في ركن قصي من أحد أدراج مكتبي وحين فتحتها حياني القلم الحبر القديم بما يشبه ابتسامة رجاء: لا تلقي بي في سلة المهملات. والحقيقة هي أنني لم أفعل.
تذكرت تلك الواقعة في أول أيام شهر رمضان المعظم حين نشطت عندي الذاكرة والتمسك بالعادات والطقوس الرمضانية التي تربيت عليها. ومن تلك الطقوس أن تعد صينية الكنافة وشراب قمر الدين وأن يوضع التمر على مائدة الإفطار وكأن الصيام لن يكون صياما بلا كنافة وشركاها. ولذلك قطعنا رحلة طويلة إلى قلب مدينة لندن بحثا عن سوبرماركت عربي يبيع الكنافة وملحقاتها. وحين عدت إلى البيت كانت طاقتي نفدت أو كادت. فقررت أن أجلس في مقعدي الأثير وأعطي تعليمات الإعداد للابنة وصديقة كانت في بيتي زائرة وظننت أن النتائج لا بد أن تكون ما أتوقع. ما لم أحسب حسابه هو أننا تعلمنا إعداد الطعام في بيوت الأهل «بالبركة» لا بالغرام والميكروغرام. وحين قلت إن خليطا من الزبد والزيت يستخدم حتى لا تكون الكنافة صعبة على الجهاز الهضمي لم أتوقع أن يكون الزيت هو العنصر الغالب. وحين قلت إن حشو الكنافة يتكون من البندق المجروش الموجود في المكان الفلاني توقعت أن يكون الطهاة أفهم من أن تستخدم ملعقة واحدة منه. ودخلت صينية الكنافة الفرن. بعد نحو ساعة سألت هل جرى نضج الكنافة. وهنا انفجرت قنبلة الخذلان. قيل لي: أخرجناها قبل أن يجري النضج لأننا احتجنا الفرن لنضج أطباق أخرى.
بالفطرة أدركت أن ما حدث لا يجوز وأن الكنافة فشلت بالتأكيد. بعد الإفطار وإغراق الكنافة بالشراب السكري تذوقتها فانخلع قلبي. لم تكن كنافة أمي ولا حتى الكنافة الأقل منها درجة. فقد كان مذاق الزيت هو الغالب وقوام الكنافة غير مشجع على الأكل. فتذكرت قلم الامتحانات. ظلت صينية الكنافة على المائدة لعل أحدا يروق له أن يأكلها. ولم يفعل أحد.
بعد الكنافة سألت نفسي لماذا نتمسك ببعض الطقوس وكأن الحياة لن تستقيم من دونها، وخلصت إلى أن هناك أسبابا ثلاثة؛ أولها الرغبة في الإحساس بالأمان، وثانيها الإحساس باستمرارية الأزمان، وثالثها النوستالجيا أو الحنين لزمن نعده جميلا.
فهل الزمن الجميل هو حقا جميل؟ حين أفكر في زمن رمضان الجميل أيام الطفولة والصبا لا أفكر إلا فيما يدخل على نفسي السرور. لا أفكر مثلا في أن ربة البيت كانت مضطرة إلى الاحتفاظ ببقايا الطعام في أطباق مغطاة بالسلك، درءا للحشرات، في مكان متجدد الهواء مثل الشرفة أو قاعدة شباك بحري وإلا تلف الطعام. لا أفكر أن بيوت زمان لم تكن بها برادات كهربائية وأن بائع الثلج كان يأتي يوميا حاملا لوح الثلج ملفوفا في الخيش، وأن الثلج كان يوضع على أنابيب معدنية داخل خزانة خشبية سميت مجازا «ثلاجة» لتبريد الماء. ولا أفكر أن الفرن وموقد الغاز لم يكونا من الأدوات المنزلية المتعارف عليها، ولذلك كان إعداد وجبة الإفطار مهمة يوم كامل.
افتح خزانة أسرارك الصغيرة وافحص المحتويات وأعد تقييم ما تتمسك به وما يمكنك التخلي عنه لعل إحساسك بالأمان يستمر ورومانسيتك فيما يختص بالزمن الجميل تتخذ معاني جديدة.
كل عام وأنتم بخير.