من الدولتين إلى الدويلتين

TT

تحول مقتل أربعة يافعين (ثلاثة إسرائيليين وفلسطيني واحد) إلى حرب إسرائيلية سافرة على قطاع غزة، تأكيد آخر على أن حروب إسرائيل «معلبة» سلفا، ومبرمجة للترسمل على أي حادث أمني في مواصلة احتلالها للأراضي الفلسطينية، وفي إرجاء موعد استحقاق التسوية السلمية قدر المستطاع، إن لم يكن إلى أبد الآبدين.

لا يحتاج فتيل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى كبير عناء لإشعاله، ولكن اضطرار إسرائيل إلى تكرار سيناريوهاتها الحربية، سنة إثر سنة تقريبا، يظهر أن محاولاتها الاحتفاظ بسيطرتها التامة على «الأمر الواقع» في الضفة والقطاع، أصبحت مكلفة، سياسيا وأمنيا، وتزداد صعوبة مع الأيام، رغم «إنجازات» سياسة الاستيطان الحالية على قدم وساق في الأراضي المحتلة.

قد لا يخرج نمط الحرب الإسرائيلية الراهنة على قطاع غزة عن سابقاته، ولكن جديدها هذه المرة – إن صح الحديث عن «جديد» في التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين – أنها «مكشوفة» سياسيا أكثر من أي حرب سابقة، فبالإضافة إلى ما تؤكده الحملة على قطاع غزة من أن إسرائيل لا تريد سلاما بل أمنا فقط، يصعب إغفال هدفيها الآنيين:

- الإطاحة بمفاوضات تسوية «الدولتين» (الفلسطينية والإسرائيلية) في وقت تغرق فيه الراعية الدولية للتسوية (واشنطن) في بحر من الأزمات الدولية المعقدة من أوكرانيا إلى العراق، مرورا بسوريا وأفغانستان والصومال.

- تثبيت «الأمر الواقع»، السياسي - الجغرافي، في الأرض المحتلة القائم على قاعدة التشرذم الفلسطيني بين «دويلتي» السلطة في رام الله، و«حماس» في غزة. وعلى هذا الصعيد، لم يخفِ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، معارضته السافرة لوحدة الشارع الفلسطيني، رغم التأكيد العلني لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بأن حكومة المصالحة الفلسطينية سوف تلتزم سياسة حكومته؛ مما يعني ضمنا قبول «حماس» بدبلوماسية التفاوض على التسوية السياسية للنزاع مع إسرائيل.

غير خافٍ أن تنافس رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، ووزير خارجيته، أفيغدور ليبرمان، على احتلال موقع المسؤول الإسرائيلي، الأطول باعا والأشد صرامة في «قمع» الفلسطينيين، لا يشجع على توقع عودة قريبة لعملية التفاوض على حل الدولتين، خصوصا أن هذا التنافس يبدو موجها، بالدرجة الأولى، للشارع الإسرائيلي الذي تتنامى يمينيته باطراد. في هذا السياق يجوز التساؤل: هل يمكن عزل مظاهر الحقد العنصري التي تجلت إبان تشييع الضحايا الإسرائيليين الثلاث - من قطع الطرقات في القدس إلى صيحات «الموت للعرب» - عن المد التطرفي المتنامي حاليا في المنطقة؟

من الصعب الافتراض بأن إسرائيل بمنأى عن «مزاج» الوضع الإقليمي المحيط بها، خصوصا أن مجتمعها يضم بيئات دينية وعرقية قابلة (كي لا نقول مهيأة) لأن تكون حاضنة لكل أشكال التطرف العرقي والديني.

مع ذلك، إذا كانت مطالب نتنياهو التعجيزية تتحمل المسؤولية الرئيسة في انهيار دبلوماسية التفاوض مع الفلسطينيين (بدءا باشتراطه وجودا عسكريا طويل الأمد في وادي الأردن، وانتهاء بمحاولته انتزاع اعتراف فلسطيني بيهودية إسرائيل)، فإن ذلك لا يعفي الراعي الدولي الكبير للمفاوضات من تحمل قسط وافر من مسؤولية هذا الانهيار.

ثلاث عشرة زيارة شبه مكوكية إلى تل أبيب وعواصم المنطقة لم تمكن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، من تحقيق خطوة واحدة في مسيرة التفاوض الطويل على حل الدولتين.. ليس لعلة في مساعي كيري، بل لفقدان الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، ثقتهما بقدرة الإدارة الأميركية على فرض التسوية.

منذ خطاب جامعة القاهرة الشهير عام 2009 والدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط، تعاني من سخاء الرئيس أوباما في بذل الوعود و«تردده» في تنفيذها، ومنذ أن تعهد في خطاب القاهرة بفتح صفحة جديدة في علاقة دولته مع العالمين، الإسلامي والعربي، لم يخرج نشاط الدبلوماسية الأميركية عن نطاق إلقاء الدروس في الأخلاقيات الدولية؛ بحيث أصبح تعبير «غير المقبول» اللازمة المتكررة والسقف الأعلى لاستنكار واشنطن خلفيات الأزمات الدولية، دون أي إيحاء عن استعدادها لتصحيح ما تعتبره هي «غير مقبول».. وعليه انحصر تعامل واشنطن مع أشرس حرب أهلية في سوريا بطلب إحالة النظام إلى محكمة دولية تحاسبه على جرائمه، ومع تجدد حروب إسرائيل على الفلسطينيين بدعوة الفريقين إلى «ضبط النفس».

إلا أن السؤال يبقى: من أجدر من واشنطن على «إقناع» إسرائيل «بضبط النفس»؟