ضحيتان غفل المعزون عنهما

TT

رحم الله الشاعر العربي الراحل أديب إسحاق.

لو كان اليوم حيا لربما عدّل مطلع قصيدته الشهيرة بحيث يصبح: «قتل (إسرائيلي واحد) جريمة لا تغتفر.. وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر».

جرائم آلة الحرب الإسرائيلية في غزة يندى لها خجلا جبين الأسرة الدولية بأكملها رغم الصمت المريب عنها.

مع ذلك لم تعد أشلاء جثث المدنيين الفلسطينيين في غزة الضحية الوحيدة لآلة الحرب الإسرائيلية المنفلتة عن أي عقال إنساني أو أخلاقي، إلى جانبهم سقط الكثير من الضحايا أبرزها ضحيتان على جانبي جبهة القتال غفل المعزون عنهما؛ أولاهما التضامن العربي، وثانيتهما الديمقراطية الإسرائيلية.

على الجبهة العربية، بات واضحا أن «أخونة» حركة حماس للقضية الفلسطينية كادت تقضي على قاعدتي التعاطف الأساسيتين معها: القاعدة القومية على صعيد الرأي العام العربي، والإنسانية على صعيد الرأي العام الدولي، وحشرتها في أضيق نطاق تطرح فيه منذ عام 1948.

وكأن القرن الـ21 ردّ بعض العرب إلى «أرذل العمر»، عملت ممارسات التيارات الدينية المتطرفة المتدثرة بعباءة الإسلام على تحويل أنظار المتعاطفين تقليديا مع المضطهدين على سطح هذه الأرض من الساحة الفلسطينية إلى ساحتي العراق وسوريا، وأعادت إحياء نظرية «صراع الحضارات» في أذهان الكثير من المفكرين والإعلاميين الغربيين.

أما على الجبهة الإسرائيلية، فالمصاب أعظم.. فقد كشف تأييد الشارع الإسرائيلي لحملتي القتل والتدمير الممنهجتين لقطاع غزة، أن مزاجه اليميني المتنامي يهدد بتحويل إسرائيل إلى دولة فاشستية باستحقاق.

لا يحتاج أي مراقب خارجي للمناخ السياسي السائد حاليا، على صعيدي الرأي العام والقرار الإسرائيليين، إلى كبير عناء لملاحظة تقلص مساحة الحريات الديمقراطية التي شكلت، في ستينات وسبعينات القرن الماضي عذرا «أقبح من ذنب» لاعتبار الغرب إسرائيل «واحة الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط.

قد يصح تأريخ المزاج السياسي للشارع الإسرائيلي بما «قبل» انهيار الاتحاد السوفياتي وما «بعده»، فانهيار المنظومة السوفياتية، الذي أتاح فرص الهجرة إلى «أرض الميعاد» للآلاف من اليهود الروس، بدّل جذريا تركيبة إسرائيل الديموغرافية والسياسية في آن واحد.

معظم اليهود الروس الذين وفدوا إلى إسرائيل كانوا أصلا يمينيين في بلادهم، مناهضين للنظام الماركسي وناقمين أصلا على تعاطفه مع الموقف العربي من القضية الفلسطينية. هذه الهجرة - السياسية بقدر ما هي إثنية - رفعت نسبة اليهود الروس بين سكان إسرائيل إلى أكثر من 20 في المائة، وحولتهم إلى «لوبي» يميني مناهض لكل ما كانت تقبل به حكومات حزب العمل السابقة من حد أدنى من موجبات العلاقة مع الفلسطينيين.

الانعطاف اليميني الإسرائيلي لم يقتصر تأثيره على الموقف من فلسطينيي الخارج فقط، بل انسحب أيضا على أسلوب التعامل الفوقي والاستبدادي مع فلسطينيي الداخل، وحتى مع الأقلية اليهودية المناهضة لمواصلة حكومة نتنياهو حربها على غزة.

تقاطع يمينية الشارع الإسرائيلي مع يمينية السلطة رفع مستوى التوتر الإثني بين العرب واليهود في إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، فعادت إلى المظاهرات الإسرائيلية النداءات المطالبة «بالموت للعرب»، وبترحيل فلسطينيي إسرائيل إلى غزة.. كما عادت أساليب القمع البوليسي الشديد للتظاهرات المؤيدة لغزة. وإذا صحت إحصاءات منظمة «عدالة» (التي تمثل عرب إسرائيل) لا يقل عدد من اعتقلتهم الشرطة الإسرائيلية بتهمة التظاهر عن 600 شخص.

أما الدليل الآخر على تآكل مدى الحريات في إسرائيل «الديمقراطية» فيتمثل في بروز ظاهرة جديدة تظهر تواطؤ الشارع اليميني مع حكومة نتنياهو الأكثر يمينية على «قطع أرزاق» الفلسطينيين المعارضين للعدوان على غزة، فبينما تتولى جماعات من الإسرائيليين نشر صور المتظاهرين الفلسطينيين على صفحات «فيسبوك» لتسهيل ملاحقتهم وطردهم من وظائفهم، يدعو وزير «يمين اليمين» الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، مواطنيه إلى مقاطعة الشركات والمحال التجارية العربية؛ عقابا لفلسطينيي غزة.

قد تخرج إسرائيل من حربها غير المتكافئة مع حركة حماس منتصرة عسكريا، ولكن تحولاتها السياسية الداخلية توحي بأن الضحية المتوقعة لهذه الحرب هي ما كانت إسرائيل والغرب يتغنيان به: سمعة «واحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط.