الصراحة بشأن غزة

TT

أصبح كل العرب في مأزق كبير، إذا تحدثوا مع الفلسطينيين في وقت هدوء وسلم، قال الفلسطينيون بالقرار الفلسطيني «المستقل»؛ أما إذا جاء وقت الحرب والنزال والدماء النازفة والمذابح المرعبة نادى الإخوة الفلسطينيون: أين أنتم يا عرب؟ لا يمر يوم إلا واستمعنا إلى بيانات سياسية، وخطابات السيد خالد مشعل التي تؤنب وتلسع وتغمز وتلمز، ولكن أقسى ما نسمعه هو ما يرد لنا شخوصا وجماعات من المدونين الفلسطينيين من داخل فلسطين ومن المنفى يصرخون ويلومون وينعون موت العروبة، ويتساءلون عما إذا كان في عروق العرب دم، أم أن خُلطت الأعراق والخواص فما عادت شهامة ولا رجولة؟ الاثنان في الحقيقة لا يجتمعان: القرار الفلسطيني «المستقل»، ودعوة العرب للمشاركة في الحرب والنزال التي لم يرسموا لها استراتيجية، ولم يتخذوا فيها قرارا، ولم يراعوا فيها مسؤولياتهم الأولى إزاء أوطانهم وشعوبهم. لن يختلف أحد من العرب على أن إسرائيل تشكل معضلة كبرى للأمن القومي العربي، فعندما توجد دولة في وسط وطن ممتد بالثقافة والتاريخ والمصالح المشتركة فإنه ينقسم، وعندما تصير هذه الدولة «نووية» فإن «التوازن» في المنطقة يختل، وعندما تريد الدولة الجمع بين الاحتلال والسلام، والاستيطان والتعايش، فإننا نصبح أمام نوع من الخداع المستمر.

نتيجة هذا التناقض فإن إدارة الصراع تحتاج إلى قدر كبير من الحكمة، وقدر أكبر من القوة، وكلاهما لا يمكن خضوعه للمغامرة والمقامرة، والقرارات التي يجري اتخاذها أمام الميكروفونات. حاول العرب حل المعضلة بأن يكون هناك تمثيل فلسطيني واضح وصريح يحمل الحمل الفلسطيني إلى العالم، ويقاتل من أجل الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. هذا التمثيل أصبح منظمة التحرير الفلسطينية التي صارت الممثل الشرعي و«الوحيد» للشعب الفلسطيني. كان ذلك خروجا من الانقسام الفلسطيني بين «فتح» والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وجبهات وحركات وأحزاب وجماعات مقاتلة متنوعة ومختلفة. ولكن التوحيد تحت راية المنظمة جرى له ما جرى لكل البلدان العربية حال مولد حركة إسلامية: حماس. لم تعد حماس منظمة تسعى إلى التحرير فقط، ولكنها منظمة تقسم منظمة التحرير، وتلفظ عنها تمثيلها للشعب الفلسطيني، وخلال عملية أول تحرير للأراضي الفلسطينية من خلال اتفاقيات أوسلو عملت حماس على نسف كل ما جرى إنجازه من خلال عمليات عسكرية ساعة الولوج إلى كل انسحاب إسرائيلي. وكما هي العادة فإن دخول حركة إسلامية إلى الساحة السياسية لا يقسمها قسمين فقط، فسرعان ما تظهر حركات أخرى، فكما لا يوجد احتكار في الآيديولوجية لا يوجد احتكار في الدين. أصبح هناك حركة الجهاد الإسلامي وجيش الإسلام، وجماعات أخرى وكلها حصلت على الصواريخ ودخلت في مرحلة «القرار» المستقل. ولم تكن النتيجة انقساما فقط، بل صارت إطاحة بالإطار القانوني الوحيد الذي يعترف به العالم وهي السلطة الوطنية الفلسطينية المنبثقة عن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. تمت الإطاحة بعناصر السلطة من فوق عمارات غزة وقتلها بوسائل متنوعة، ومن ثم بات مستحيلا في غياب السلطة الوحيدة المنوط بها الإشراف علي المعابر «السبعة» - 6 معابر مع إسرائيل ومعبر واحد للأفراد مع مصر - أن تفتح هذه المعابر لكي يعيش شعب غزة عيشة كريمة.

المأزق العربي يستحكم، فما لدينا بات منظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهذه لها سلطة وطنية فلسطينية، وهذه تعيش الآن على أراض منقسمة بين غزة والضفة الغربية، وبين فتح من ناحية، وحماس ومعها جماعات «جهادية» مختلفة من ناحية أخرى. وهؤلاء يتخذون قراراتهم حسب ما اتفق، فلا توجد حسابات لتوازن القوى، ولا يوجد حساب للظروف الجارية والضاغطة في المنطقة. وعندما دخلت حماس وأعوانها في الحرب مع إسرائيل لم يكن الدم الفلسطيني وحده الذي يسيل، بل كان الدم السوري يجري أنهارا، وعبرت داعش من سوريا إلى العراق، وفيها احتلت الموصل، وذبحت من ذبحت، وطردت المسيحيين، بينما أقرانهم من جماعة «بيت المقدس» يقتلون الجنود المصريين في الفرافرة، بينما جماعة أخرى تقتل جنودا جنوب تونس، ويهدد آخرون الأمن في المغرب انطلاقا من مالي وليبيا. أليس مشروعا أن يطرح السؤال عما إذا كانت حرب غزة جزءا من حرب أعظم تجري باتساع المنطقة كلها، وهدفها الدولة العربية المراد منها التدخل لإنقاذ الشعب الفلسطيني؟

كل ذلك له إطار تاريخي، ويضع الكثير من أحداث المنطقة طيعة في يد أنصار نظرية المؤامرة من كل نوع، ولكن الحقيقة هي أن هناك خللا كبيرا في مجتمعاتنا من أول التكييف المادي والمعنوي للقضية الفلسطينية وحتى كيفية إدارة مجتمعاتنا التي فيها الكثير من الأمراض التي غالبا لا نعترف بها، حتى لا نقوم بمواجهتها. بلغ القتلى في العراق قرابة المليون منذ الغزو الأميركي، وأكثره بين السنة والشيعة مع مشاهد جانبية دامية بين المسلمين والمسيحيين، والعرب والأكراد؛ وفي سوريا بلغ القتلى 200 ألف، وفي فلسطين تعدى القتلى من الفلسطينيين 1200 قتيل، وآلاف المباني، وعشرات الأنفاق مقابل 55 إسرائيليا كان فيهم الكفاية لكي تعلن حماس النصر في المعركة. الغريب في الأمر أنه بينما إلقاء اللوم على العرب يجري مجرى البحار والأنهار، فإن مصر أقرب الحلفاء للقضية الفلسطينية، باتت هي المتهم الأول. حماس ادعت أن المعابر، بما فيها معبر رفح بالطبع، ما هي إلا ملك للعرب، ومن ثم وجب وضعها تحت الإدارة الدولية التي تفتحها كما تريد لها حماس. ليس هناك مانع أن تكون كل المعابر بما فيها تلك الإسرائيلية ملكا للعرب، ولكن لماذا لا تكون تحت إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية التي تتفاهم مع الدول المعنية من أجل فتح المعابر. السلطة الوطنية لم تثقب الحدود المصرية بالأنفاق كما فعلت حماس وتجعلها ممرا للإرهابيين والمسلحين والأسلحة وهز الاقتصاد المصري بتهريب النفط والسلع؛ ولكن حماس فعلت كل ذلك.

الدول العربية مع كل شعورها بالألم لما يجري للشعب الفلسطيني، فإن عليها أن تطرح الأمر كله على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وإسرائيل وفي الشتات. إذا كانت حماس تريد عونا عربيا حقا فإن عليها أن تعترف بالحقيقة التي لا تريد الاعتراف بها، وهي أنها فشلت بانقسامها عن السلطة الوطنية في إدارة الصراع مع إسرائيل، وأن عليها أن تعيد الأمور إلى نصابها حيث منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والسلطة الوطنية هي المنوط بها إدارة الصراع وليس غيرها. الدم العربي الذي يسيل ليس هو فقط الفلسطيني فهناك السوري والعراقي والمصري والليبي والتونسي والجزائري، وكلنا نعرف من هم القتلة والسفاحون.